كان لافتا في لندن القديمة كثرة الآثار الرومانية، ولكن في زاوية قرأت لافتة تشير إلى (متحف السجون) فاجأني شعور بأنني أسقط في هوة عميقة، وتشوشت مشاعري كأنني مندهشة من أن يكون هناك متحف للسجون في لندن، واقتربت لأرى ما في داخل المتحف، عند المدخل الضيق، وفي أعلاه هناك شاشة عرض صغيرة تعرض طوال الوقت صوراً لسجناء يُعذبون. صور ناس حقيقين، وصور أدوات التعذيب، الصور تتلاحق بسرعة كبيرة، حتى تشعر بأن وجوه المعذبين في السجن تتوحد في وجه واحد.
مدخل متحف السجون ضيق، وثمة درج نازل إلى المبنى، وفي نهاية الدرج باب مؤلف من قضبان حديدية تماماً كأبواب السجون. طوال أيام لم تفارق خيالي صور التعذيب التي تعرضها الشاشة في مدخل متحف السجون. وفكرت ماذا لو أقيمت متاحف للسجون في عالمنا العربي؟ كم متحفا سيكون في كل بلد عربي؟ سيمكننا أن نرى وجوه المُعذبين في السجون العربية من رجال ونساء وأطفال أيضاً، وسنرى أدوات التعذيب ووجوه الجلادين الذين ينفذون أوامر سادتهم.
متحف السجون في لندن أنعش ذاكرتي المحتشدة لدرجة الاختناق بوجوه أحبة عرفتهم عن قرب، هم سجناء الرأي الذين بسبب أفكارهم سجنوا سنوات طويلة، وتعرضوا لأنواع مروعة من التعذيب، والبعض مات تحت التعذيب، والكثير منهم خرجوا من السجن مبدعين، أحدهم بدر زكريا أنشأ مسرحاً في السجن، مسرحاً إبداعياً مدهشاً، وحين خرج من السجن بعد ثماني سنوات أبدع مسرحية رائعة تحكي عن السجن في مدينته جبلة، كذلك محمد حبيب الذي سُجن تسع سنوات بتهمة (الدفاع عن حقوق الإنسان) وقدم ترجمات لأهم الروايات في السجن، فقد ترجم رواية «العمى» لخوزية ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل، وحين خرج من السجن ترجم روايات رائعة لخالد الحسيني وغيره. كذلك الدكتور راتب شعبو الذي سجن أكثر من ثماني سنوات، كان وقتها طالباً في كلية الطب، ثم أكمل دراسة الطب بعد خروجه من السجن، وكتب رواية رائعة «خلف هذه الجدران» قرأتها مخطوفة الأنفاس من فرط الإذلال والتعذيب الذي تعرض له، ويتعرض له كل السجناء. ما كتبه ياسين الحاج صالح الذي سجن أكثر من ست عشرة سنة مهم «بالخلاص يا شباب». رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة لا يُمكن أن تُنسى. الكثير من الكتّاب في سوريا كانوا سجناء رأي، وكنا نقضي سهرات طويلة نحكي عن حياتنا في سجن كبير اسمه الوطن.. وطن الشعارات والهتافات والأغاني والانتصارات، كنت أستمع مبهورة إلى الأحبة وهم يحكون عن طرق التعذيب الوحشية التي تعرضوا لها، كأن يُعلق السجين بالسقف لأيام فيهده الألم والتعب وينام وهو مُعلق وتصبح وتتورم خصيتاه حتى يصل الورم لمنتصف الفخذ، الأقدام أيضاً يحتقن فيها الدم وتتورم بشدة، أدوات التعذيب: الدولاب والكرسي وغيرها من وسائل التعذيب.
الكثير من السجناء خرجوا من السجن بعد سنوات طويلة من سجنهم ولم يجرؤوا أن يحكوا كلمة واحدة، بقي إحساسهم أنهم تحت المُراقبة يُسيطر عليهم والخوف يشلهم
الشتائم المُهينة للسجين أثناء التحقيق، أحد أساليب التعذيب في السجون أن تُنهك السجين بالكلام والاستجواب لدرجة يكاد ينهار، أن ينتزع المحقق اعترافات من سجين الرأي، بأنه قام بأفعال هو لم يقم بها أبداً، لكنه يضطر للاعتراف تحت التهديد باغتصاب الأم أو الزوجة أو الابنة، وتحت التعذيب، أحد الأصدقاء وصف كيف كان الضابط الذي يحقق معه يضع حذاءه في فم السجين ويشتمه ويشتم أمه. صديق آخر وصف بدقة منظر السجان وهو يضغط على رقبة سجين في باحة السجن حتى الموت. في سجن تدمر الأكثر وحشية كانت تُنفذ إعدامات جماعية كل أسبوع تقريباً وكان السجناء يعرفون أنهم سيُعدمون فيودعون رفاقهم.
الكثير من أصدقائي سجناء الرأي لم يتمكنوا من رؤية أهاليهم إلا بعد سنوات من السجن، وحين يُسمح بالزيارات. العديد من أهالي السجناء دفعوا مبالغ كبيرة لمسؤولين بمراتب عالية فقط ليعرفوا خبراً عن أبنائهم، هل هم أحياء أم في عداد الموتى، أو يدفعون مبالغ كبيرة لتأمين زيارة للسجين. أساليب التحقير لا تنتهي، فعلى السجين أن يسير ورأسه إلى الأرض دوماً، وقد يُفاجأ السجناء وهم يتحلقون حول قصعة الحساء، أن السجان دخل فجأة وتبول في الحساء، أو يُفاجأون بالسجان يراقبهم من طاقة سقف المهجع يشتمهم أو يرميهم بالأوساخ.
من أهم العوامل في السجن كمكان هو أن يشعر السجين بأنه مُراقب دوماً، أن تمر كل لحظة في يومه وهو يعرف أن ثمة من يُراقبه طوال الوقت، حالة تدفع إلى الانهيار العصبي، نشأت تقنيات المُراقبة أساساً في البيئات الاستعمارية وكانت تقنية المُراقبة الرئيسية تُعرف باسم panopticon وهي اختراع استعماري تطور على حدود أوروبا الاستعمارية مع الإمبراطورية العثمانية، وهو مفهوم تأديبي (البانو بتيكون) على شكل برج مراقبة مركزي، إذ يُمكن للحارس من خلال البرج رؤية كل سجين وكل زنزانة، لكن السجناء لا يُمكنهم رؤية البرج، أي لن يعرف السجناء أبداً إن كانوا مُراقبين أم لا. وكان الفيلسوف الإنكليزي جيرمي بينتام أول من نظر لمفهوم (البانو بتيكون ) في نهاية القرن الثامن عشر إثر زيارته إلى مدينة كريشيف (تتبع الآن روسيا البيضاء) عندما تعرّف على طريقة المراقبة المستمرة للعمال ومن هنا أتت الكلمة بالإغريقية وهي تعني (رؤية الجميع). المهم أن السجناء الذين يعرفون أنهم مُراقبون طوال الوقت يدفعهم هذا إلى التنظيم الذاتي كإجراء دفاعي. عالمنا العربي حافل بالسجون وهناك الكثير من الروايات والشهادات عن السجون في الدول العربية ومنها رواية عبد الرحمن منيف «الآن هنا» التي أبدع فيها في الغوص في أعماق السجون وتحدث عن ثلاثة سجون مُروعة في عدة دول في عالنا العربي، ورواية الهول، حيث تنعدم تماماً إنسانية الإنسان ويصير التعذيب هواية وفناً والتلذذ بآلام السجين متعة للسجان. المُروع أيضاً أن الكثير من السجناء خرجوا من السجن بعد سنوات طويلة من سجنهم لم يجرؤوا أن يحكوا كلمة واحدة، بقي إحساسهم أنهم تحت المُراقبة يُسيطر عليهم والخوف يشلهم فهم يعيشون في السجن الكبير الذي يُمكنك فيه أن تمشي من شارع إلى شارع وأن تسافر من مدينة إلى مدينة أخرى، لكنك تشعر دوماً بأن ثمة من يُراقبك وأن (للحيطان آذانا). لا أنسى ما قاله دبلوماسي غربي في سوريا: في كل مرة أدعو ضيوفاً أجانب إلى العشاء تكون الطاولة المجاورة لطاولتي في المطعم لعدة رجال من المخابرات، وصدقيني أدفع الفاتورة عنهم.
أمام متحف السجون في لندن تفجرت أسئلة كثيرة وذكريات ووجع لا ينتهي عن السجون في عالمنا العربي، ولا تزال السجون في عالمنا العربي تغص بالسجناء، وأخص هنا سجناء الرأي الذين طالبوا بالحرية والكرامة ودفعوا الثمن نيابة عنا. لست الوحيدة التي تشعر بأنها لم تُسجن بالصدفة، بل هناك الكثير مثلي. شعور غريب هزلي أن تشعر بأنك لم تُسجن إلا بالصدفة، وأنك مُراقب طوال الوقت وهاتفك مُراقب، وما تكتبه على صفحتك على فيسبوك وغيره مُراقب. أظن أن لا داعي لإقامة متحف للسجون في عالمنا العربي، أو ربما تحتاج تلك المتاحف التي تعرض وجوه المساجين والسجانين وطرق التعذيب إلى شاشات عرض كثيرة وساحات بمساحة وطن.
كاتبة سورية