في مثل هذه الايام قبل نصف قرن (صيف العام 1970) كان العالم العربي مصدوما برحيل الرئيس المصري، جمال عبد الناصر الذي كان قائدا ملهما للكثيرين ورمزا من رموز النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
هذا برغم أنه لم يحقق الكثير على صعيد المواجهة العسكرية مع نظام الاحتلال. يومها كان ثمة شعور جماهيري عميق بالقضية الفلسطينية ومحوريتها في الوعي الاستراتيجي العربي والإسلامي الذي كان يعتبر الغرب مسؤولا عن فرض الكيان على المنطقة وحرمان الشعب الفلسطيني من ارضه. كان الوعي الشعبي مضادا للسياسات الأمريكية في العالم، خصوصا مع استمرار الحس التحرري لدى شعوب كثيرة خاضت النضال ضد الاستعمار باحثة عن الحرية.
ومن المؤكد أن اجواء الحرب الباردة كانت عاملا في حالة الاستقطاب الفكري والايديولوجي في العالم، الامر الذي وفر للقضية الفلسطينية دعما عالميا ساهم في فرض حصار سياسي ودبلوماسي على «إسرائيل». وبعد أقل من عشرة اعوام، تغير المشهد السياسي بالزيارة التي قام بها أنور السادات الذي أصبح رئيسا لمصر بعد وفاة عبد الناصر، الى القدس.
وبعد أن وقع أنور السادات اتفاق السلام مع الكيان الإسرائيلي، كان العالم العربي مختلفا تماما عما هو عليه اليوم. كانت ردة الفعل العربية قوية وحاسمة، فجاءت مقاطعة مصر ونقل الجامعة العربية من القاهرة الى تونس، واعتبار التطبيع مع العدو خيانة. كانت مشاعر الغضب تعم المنطقة لأن السادات تجاوز خطا أحمر وتحدى مشاعر الأمة. ولم تمر سوى أقل من عامين حتى تعرض الرئيس المصري لعملية اغتيال تمت في وضح النهار بينما كان يستعرض القوات المسلحة في عرض عسكري في 6 اكتوبر بمناسبة حرب 1973.
ماذا يعني ذلك؟ حكام الدول العربية يعرفون موقع قضية فلسطين في الوجدان الشعبي، بالإضافة لموقعها في العلاقات الدولية، وكيف أن استمرارها بدون حل أكثر من سبعين عاما أمر لا يشرّف العالم. ولذلك فبرغم محاولات بعض الحكومات إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي إلا أن حكامها احجموا عن ولوج طريق التطبيع الكامل لعلمهم أن ذلك سيضعهم في مواجهة مع كافة قطاعات الأمة وسوف يشجع التمرد ضدهم. فالأردن أقامت علاقات مع «إسرائيل» وكذلك المغرب، ولكنهما لم تسعيا لتحدي مشاعر الجماهير العربية التي ستظل رافضة الاحتلال وكل من يسعى للتطبيع معه.
وكان رفض الاستعانة بالقوات الأجنبية واضحا عندما احتجت الجماهير في مظاهرات انطلقت في البلدان العربية الكبرى في خريف 1990 ضد القرار السعودي باستقدام قوات اجنبية لإخراج القوات العراقية من الكويت. فهناك شعور عميق يرفض الهيمنة الغربية على المنطقة، وقد تعمق ذلك بعد صعود دونالد ترامب الى الرئاسة الأمريكية. وتعمق الرفض العربي، خصوصا الفلسطيني، للاحتلال الإسرائيلي للسياسات الإسرائيلية خصوصا في عهد رئيس وزراء العدو الحالي، بنيامين نتنياهو. الأمر المؤكد أن الجماهير العربية تعاني من حالة وهن مادي ونفسي بعد عقود من القمع والاضطهاد والاستلاب، ولكن ذلك الضعف لم يؤثر على قناعات الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين بضرورة تحرير ارض المعراج وعدم الاعتراف بالاحتلال.
كان العالم العربي مختلفا تماما عما هو عليه اليوم. كانت ردة الفعل العربية قوية وحاسمة، فجاءت مقاطعة مصر ونقل الجامعة العربية من القاهرة الى تونس، واعتبار التطبيع مع العدو خيانة
لذلك جاء الرفض الشعبي المطلق للخطوة الإماراتية الأخيرة بالتطبيع مع كيان الاحتلال، والتصريحات التي صدرت عن منظمات المجتمع المدني والنشطاء وبعض الحكومات. هذا الرفض لن يقتصر على الشعور الشعبي العام، بل من غير المستبعد استهداف الإمارات في وجودها وكيانها الاقتصادي. وعندما ذاع خبر التفجير الذي حدث في ابوظبي الاسبوع الماضي الذي لقي فيه ثلاثة اشخاص مصرعهم، استقبل الخبر بقدر من التوجس والاضطراب. فلا أحد يريد أن يرى المنطقة مستهدفة بأعمال عنف وقتل. والسؤال هنا: ألم يكن حكام الإمارات واعين بهذه الحقيقة؟ أي أن الجماهير العربية لن تقبل بالتنازل عن ارض فلسطين او الاعتراف بسيادة المشروع الصهيوني على أرض المعراج؟ كان حريا بحكام الإمارات ان يكونوا أكثر دبلوماسية وحذرا، وان لا يستهدفوا شعوب الأمة في اعز ما تشعر به. كان حريا بولي عهد الإمارات، ومعه نظيراه في السعودية والبحرين أن يراعوا حساسية الشعوب ويمتنعوا عن السير في ركاب أنور السادات الذي ذهب ضحية صلفه وغروره وتجاهله مشاعر الجماهير. فما هي القوة التي تملكها الإمارات لتمكنها من امتصاص غضب الرأي العام الذي لا يرحم عندما يشعر بأن كرامته قد أهينت وأن حقوقه تمت المساومة عليها؟
الحقيقة التي اصبحت واضحة ان قرار التطبيع مع «إسرائيل» كان ثلاثيا وشمل حكومتي السعودية والبحرين، بدفع من ادارة ترامب، وان زيارة وزير خارجيته الى المنطقة مؤخرا وفرت المناخ لخطوة درامية لم يكن حدوثها بهذه السرعة متوقعا. ولكن السؤال: ألا يعي حكام الإمارات ضرورة احترام مشاعر أكثر من مليار انسان على وجه هذا الكوكب يرفضون التنازل عن فلسطين؟ ألم يستحضروا تبعات قرار السادات قبل اربعة عقود وكيف انه دفع حياته ثمنا لمغامرته الطائشة؟ ألم يعلموا ان مصر وجدت نفسها مضطرة لتبطئة قطار التطبيع بعد ان ادركت الخطأ الفادح الذي ارتكبه السادات؟ كان واضحا انه لم يعر المشاعر العامة اهتماما عندما استجاب للضغوط الأمريكية وهرع لزيارة القدس. وقد كلفه ذلك ثمنا باهظا، وأنهى حياته، ليس كبطل قومي، بل كحاكم خان شعبه وقضيته ودفع حياته ثمنا لمغامرته. صحيح ان قضية فلسطين وضعت على نار دافئة جدا وان هناك من يسعى لإطفائها كاملة، ولكنها تأبى ذلك وتصر على البقاء.
هذا هو شعور شعب فلسطين الذي لم يتزحزح عن موقفه برغم ما يعتريه من آلام ومآس مادية وبشرية. ولا يكفي وجود تواطؤ بين حكام دول ثلاث للتطبيع مع الاحتلال لحماية مشروع التطبيع الذي ولد ميتا. فما يزال اغلب الحكومات العربية والاسلامية يرفض التنازل عن قضية فلسطين بالتطبيع مع محتليها. كما ان الظلامة التاريخية لهذا الشعب لا تستطيع اموال النفط محوها، فهي تتجاوز الزمان والمكان، لتبقى قضية إنسانية يشعر بالانتماء اليها اصحاب الضمائر والحية وذوو القيم والاخلاق.
ربما اعتقد البعض أن كلا من السعودية والبحرين ستراجعان موقفيهما وتتوقفان عن اللحاق بالمشروع الصهيوني للتسوية بعد أن اتضح حجم معارضته من جانب الشعوب العربية. ولكن سرعان ما اتضح أن الرياض والمنامة متواطئتان تماما في مشروع التطبيع مع الاحتلال وان قرار التطبيع انما هو امر من واشنطن وليس قرارا نابعا من الداخل.
السعودية سبقت بالإعلان عن فتح اجوائها للطيران الإسرائيلي في الوقت الذي ما تزال تلك الاجواء مغلقة امام طيران دولة عضو بمجلس التعاون الخليجي. ثم اعلنت حكومة البحرين انها ستفتح اجواء البلاد للطيران الإسرائيلي المتوجه الى ابوظبي. ولم يعد سرا أن البحرين ستعلن قريبا صفحة خيانية جديدة بإقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي، وغلق مكتب المقاطعة في المنامة. هذه الخطوات ليست عفوية كما انها ليست قرارات سيادية، بل اوامر من البيت الابيض في مقابل دعم حكومتي الرياض والبحرين من غضب معارضة تزداد توسعا. المشكلة هنا ان التطبيع لن يتوقف هنا كما لن تنتهي تبعاته بتوتر علاقات الدول العربية في ما بينها. بل امن الخليج اصبح مهددا اكثر من اي وقت مضى. فالقرار المذكور سيعمق الشروخ داخل المنظومة الخليجية من جهة، وبين ضفتيه من جهة اخرى. فايران تعتبر السماح للإسرائيليين بالتواجد على حدودها تهديدا لأمنها القومي، وفي الكويت ارتفعت أصوات كثيرة معارضة للتطبيع الذي سيفتح المجال لقدوم الإسرائيليين الى الخليج وعبثهم بأمنه ومنع استقرار شعوبه.
كاتب بحريني
صدر عام 1947 قرار أممي تقسيم فلسطين بعد ذبح أوروبا يهودها فقامت إسرائيل عام 1948 واعترفت بها الدول العظمى والعالم عدا دول العرب أعلنت حرب عليها ومنعت قبول فلسطين للتقسيم، بالمقابل تركيا من أول دول العالم تعترف بإسرائيل عام 1949 ولم تقطعها طوال 70 سنة حتى الآن ولم تعلن حرب عليها أبداً رغم تغير أنظمة الحكم بها، بينما خاض العرب ثلاثين سنة حروب دامية استنزفتهم واحتلت اسرائيل أراضي دول عربية بدعم غربي غير محدود فاضطر العرب للإعتراف بإسرائيل بدءاً بمصر عام 1979 وفلسطين 1993 والأردن 1994 والإمارات 2020