أغلقت الأجهزة والسلطات المحلية في الإسكندرية مطعما مخالفا للقانون.. وهذا في ذاته شيء مطلوب وصحيح، وأن يكون القانون صارما وحازما في التصدي للمخالفات فهذا عظيم.. لكن أن يترسخ لدى المواطن انطباع بأن تطبيق القوانين إنتقائي فذلك عمل مذموم، ومع هذا هلل المهللون وتناولوا الإجراء على مواقع «الاتصال الألكتروني» بالتهييج والإثارة، وفي البداية أحب توضيح نقطة أراها مهمة تتعلق بقناعتي بوظيفة هذه المواقع، فهي من وجهة نظري ليست للتواصل الاجتماعي كما يتخيل البعض.. فالتواصل عملية إيجابية ونافعة من ناحية اللفظ. أما المضمون الاجتماعي فغير متوفر مع أناس ليس بينهم علاقة مباشرة وتفاعل في التعامل بين بعضهم البعض.. وهو ما توفره دوائر ذوي القربى والجيرة وزمالة العمل والصداقة المتجذرة، وكلها غائبة، وتفتقد للحس الإنساني؛ المفعم بالأحاسيس والمشحون بالمشاعر، ومن الصعب إضفاء المعنى الاجتماعي على نشاط من ذلك النوع.
والتهليل لذلك الإجراء المفترض تطبيقه على المخالفين للقانون، لم يحمل هذا المعنى لأن المستهدف صاحب مطعم سوري الجنسية، وبدت جنسيته مشكلة، وسببا في العقوبة.. وفي ذلك إضرار بالغ بعلاقة الأخوة الضاربة في عمق الزمن.. وأنا هنا لا أناقش استثناء أحد من المحاسبة أو الملاحقة، أما أن تكون جنسية من وقعت عليه العقوبة هي السبب، فهذه أشد نكالا ومجافاة لصحيح القانون وروحه.
وتلخيص القصة لمن لا يعرفها؛ هو أن مواطنة مصرية مسنة تقيم أعلى مطعم؛ تضررت منه، فأرسلت استغاثة لرئيس الدولة، وعلى الفور بادرت السلطات والأجهزة المحلية بإغلاق المطعم وإزالة المخالفات والإشغالات خلال ساعات، وهذا إجراء حميد وصحيح من هذه السلطات والأجهزة وسرعتها في اتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة على افتقاد الشروط القانونية، وعدم الالتزام بقواعد الأمن الصناعي والسلامة المطلوبة. خاصة أن المطعم يقع وسط مناطق سكنية، وليس في مجمعات أو أسواق وأماكن معدة لذلك ومُؤمَّنة وخاضعة للرقابة والمتابعة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي نتناول موضوع مثل هذا، وقد تعرضت لموضوع قريب أو مماثل في حزيران/يونيو الماضي، أثير من أحد المنتمين لـ«الميليشيات القانونية»، فتقدم ببلاغ للنيابة ضد صاحب مطعم في مدينة ساحلية غرب الإسكندرية، «والتهمة» أنه سوري. وزاد الطين بلة أن المطعم يحمل اسما تركيا؛ «مطعم أرطغرل» وهواسم مؤسس الدولة العثمانية، وأشرنا إلى تأكيد مصادر رسمية مطلعة لموقع «روسيا اليوم» أن مالك المطعم مصري؛ اسمه محمود وكنيته المنوفي؛ أي من أبناء محافظة المنوفية، وهي محافظة مصرية في وسط الدلتا، والمطعم ليس تركيا؛ وطرحنا وقتها سؤالا عن الضرر الذي وقع؟ والوجود السوري طبيعي ومستقر في أنحاء مصر من زمن.. والسوريون شركاء ولم يكونوا يوما غرباء، وحديثا عاشوا هم والمصريون تحت راية دولة واحدة اسمها «الجمهورية العربية المتحدة».
وأنا واحد من بقايا جيل يحمل كل ذكرى طيبة عن سوريا والسوريين، وبدأ ذلك مبكرا، ومصر تعد للاحتفال بإعلان قيام دولة الوحدة المصرية السورية؛ كنت وقتها في الصف الثاني الثانوي، ومن بين المختارين للتدريب على أداء النشيد المخصص للمناسبة، وعنوانه «يا إلهي انتصرنا بقدرتك»، ويوم الاحتفال بميدان عابدين كنت من المجموعة التي وقفت أمام الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وهو يؤدي ذلك النشيد.. وبدأ بمقطع: يا إلهي ، انتصرنا بقدرتك/ وفي جهادنا استعنا برحمتك.. واعتمدنا وضربنا بقوتك/ واتحدنا وسجدنا لنعمتك. وكان آخر مقطع: امة واحدة تحت راية الأمان/ وإتحادنا زادها مجدا و ضمانا.. عنوانها إتحاد ضد المعتدين/ وشعارها حياد مرفوع الجبين.
استمدت حيوية وأهمية الدورين السوري والمصري أهميتها؛ حتى استقرت على مقولة «إذا كانت حرب التحرير غير ممكنة بدون مصر، فإن السلام لا يتحقق بدون سوريا»، ولقاء البلدين الشقيقين هو السبيل الحقيقي لنهوض «القارة العربية» من كبوتها المتجددة لأكثر من أربعة عقود
ومنذ ذلك الوقت وأنا أتطلع لزيارة سوريا، وتمت الزيارة في مثل هذا الشهر عام 1969، ذهبت إليها برا من الأردن حيث شاركت مع وفد شبابي مصري في «مؤتمر طلاب فلسطين» في عَمّان، وذهبنا إلى دمشق بمبادرة شخصية، وبعدها تكررت الزيارات حتى آخر زيارة 2001، وفي إحداها رافقتني أسرتي وأطفالي الصغار؛ مطلع ثمانينيات القرن الماضي.. ولماذا أسرد هذا؟ أسرده لتبيان الجاذبية المتبادلة بين أبناء البلدين الشقيقين، وبالاحتكاك والقراءة اكتشف أنها جاذبية قديمة.. وحديثا لعب الشوام؛ قبل التقسيمات الاستعمارية الحالية دورا مشهودا في النهضة العربية، وخصوصا النهضة المصرية؛ الثقافية والصحفية والفنية مطلع القرن العشرين.
والسؤال هو لماذا تغير الحال؟، والرد ببساطة لأن من يديرون شؤون «القارة العربية» جعلوا تاريخها يمشي على رأسه بدلا من أن يمشي على رجليه، وصاروا أسرى لأيديولوجيات انعزالية وانشطارية؛ حاملة لمضامين عنصرية وطائفية ومذهبية وعشائرية ومناطقية، بجانب فِكْر «الذين في قلوبهم مرض»؟، وقد تناول الكاتب عماد الدين حسين رئيس تحرير صحيفة «الشروق» المصرية هذه القضية ، قائلا إن أسوأ ما فيها هو «الروح الجاهلية المتعصبة» التي تعامل بها البعض، وحصر القضية في صاحب مطعم سوري، استقوى بالمال على سيدة مصرية مسنة. وأشار إلى رسالة استغاثتها وقولها: «السوريين فتحنا لهم بلدنا، يرضيك يعملوا فينا كده يا ريس، أنا انتخبتك مرة ومرتين، وأنا بمشي على كرسي متحرك، متسيبش السوريين يطلعونا من بيوتنا»!!..
وطرح حسين أسئلة وجب التوقف عندها، مثل؛ ما أهمية جنسية صاحب المطعم السورية في الموضوع؟ «وهل كانت شكوى واستغاثة السيدة ستختلف لو أن جنسية صاحب المطعم مصرية؟». وخاطب الذين انتفضوا على وسائل التواصل الألكتروني: هل كنتم ستتضامنون مع هذه السيدة بالحرارة نفسها، لو أن صاحب المحل مصري؟.. ورد: أشك في ذلك كثيرا، والسبب أن هناك مئات الآلاف من أصحاب المطاعم والمحلات والورش والمنشآت يفعلون ما فعله صاحب المطعم السوري، وهناك ملايين المصريين يعانون مما عانت منه السيدة صاحبة الاستغاثة، وأن يتحرك الجميع بسرعة لأن صاحب المطعم سوري؛ هو أمر غريب، ويؤكد ما أسماه «الروح الجاهلية المتعصبة»!!
والعلاقات المصرية السورية اتسمت على مدى تاريخها بالخصوصية والعمل المشترك، وصلت ذروتها بقيام الوحدة بين البلدين الشقيقين عام 1958، وقد مثلت حلقه في سلسلة من الروابط التاريخية التي لا تنفصم. ورغم انفصال الدولتين فى عام 1961 إلا أن محاولات عودة الوحدة تكررت وإن بأشكال وصور أخرى، ووصلت الذروة في حرب 1973؛ بنجاحاتها العسكرية المبهرة وإخفاقاتها السياسية المخزية، وانتهائها بمغامرة زيارة القدس المحتلة، ومثل فيها خطاب السادات من على منبر الكنيست؛ مثل إعلانا رسميا من رأس الدولة العربية الأكبر، والقائد الأعلى للقوات المسلحة بالاستسلام دون قيد أو شرط.. وما نعيشه من توابع استمرار لذلك الاستسلام المخزي والبائس، الذي لا يبدو أن آثاره ستزول في المدى المنظور.
وعلى مدى التاريخ؛ بِمَدِّه وجَزْرِه.. استمدت حيوية وأهمية الدورين السوري والمصري أهميتها؛ حتى استقرت على مقولة «إذا كانت حرب التحرير غير ممكنة بدون مصر، فإن السلام لا يتحقق بدون سوريا»، ولقاء البلدين الشقيقين هو السبيل الحقيقي لنهوض «القارة العربية» من كبوتها المتجددة لأكثر من أربعة عقود، ورغم كل ما يقال عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا وغير سوريا ما كان يجب للعلاقات الدبلوماسية أن تنقطع في 2013، ولم تعد حتى الآن، وإن تم الاتفاق ـ تحت ضغط شعبي ـ على فتح منفذ قنصلي لرعايا الدولتين وذلك أضعف الإيمان.
كاتب من مصر
السلام عليكم
لوكان الموضوع بزاته كان في سوريا بوجهة نظرك كان ايه الي هيحصل