يحوي الفكر العربي المعاصر تراثا تنويريا حقيقيا أسهم في صياغته وتطويره كتاب وأدباء وفنانون عاشوا خلال القرن العشرين بين ظهرانينا أو حنت عليهم المنافي حين ضاقت بهم الأوطان.
مأساة تنويريي القرن الماضي الذين عاشوا رومانسية حلم تقدم ورقي العرب كمنت في غياب فاعليتهم المجتمعية وما رتبه ذلك من حالات ذهنية ونفسية شديدة السلبية، بدأت بالتعامل الساخر مع الواقع رافض التغيير ومرت بالرؤى العدمية ومحاولة إرضاء الذات بحلول فردية وانتهت بشعور عميق بالعجز وفقدان الرغبة في مواصلة الطريق والاستسلام لمصائر الاستبداد والتأخر المحتومة.
وقد اعتدنا في نقاشاتنا العربية على تفسير مأساة المفكر العربي هذه بالإشارة فقط إلى عوامل مثل طغيان الحكومات السلطوية محتقرة التفكير الحر والطاقة الإبداعية وهيمنة المؤسسات التقليدية العشائرية والأبوية معيقة التغيير. غير أن نقد الحكومات السلطوية والتقاليد البالية، وعلى الرغم من محوريته، لا يمثل هنا سوى وجه واحد من وجهي العملة المتداولة.
أما الوجه الآخر فيرتبط بالمفكرين العرب أنفسهم ورؤيتهم الذاتية لموقعهم وحدود دورهم. على سبيل المثال، لم ترتب أمور كغياب الديمقراطية والحضور المستمر للتعقب الأمني للأصوات النقدية في مجتمعات المعسكر الاشتراكي السابق (الاتحاد السوفييتي السابق وأغلبية بلدان أوروبا الشرقية والوسطى خلال جل النصف الثاني من القرن العشرين) لم ترتب هيمنة الإحساس بالعجز والنظرة الانهزامية على الحياة الفكرية هناك. بل تبلورت، خاصة منذ النصف الثاني للسبعينيات، تيارات للمقاومة والدفع في اتجاه التغيير كان من بينها جماعات المنشقين ودعاة العصيان المدني ونوادي القلم والحركات الاجتماعية الجديدة التي ضمت في عضويتها مفكرين كثيرين وأسهمت بفاعلية في التحول نحو الديمقراطية مع بداية التسعينيات.
قاوم مفكرو التغيير في المعسكر الاشتراكي السابق استبداد الحكومات، قاوموا على الرغم من انتقامية الحكومات وعنف أجهزتها الأمنية. وربما تدلل سيرة عالم الفيزياء الروسي أندريه سخاروف (1921 ـ 1989) على ذلك، فالعالم الشهير الذي أعتبر في أعقاب الحرب العالمية الثانية من آباء «القنبلة النووية السوفييتية» وحاز على معظم الألقاب التكريمية للإمبراطورية البائدة (من نيشان لينين إلى جائزة ستالين) شرع منذ الستينيات في الدعوة للإصلاح السياسي وأيد ربيع براغ في 1968. ثم انتقل الرجل إلى صفوف المعارضة بصورة علنية مع إضرابه المتكرر عن الطعام بين 1974 و1975 على نحو لم يمكنه من استلام جائزة نوبل للسلام بصورة شخصية والتي كانت قد منحت له في 1976.
حين ترفض النخب العربية التغيير وتتمسك بامتيازاتها، فتنزع أغلبية المفكرين العرب إلى رفض التغيير خوفا من الفوضى وتجنح إلى تفضيل أوضاع الاستبداد والاستقرار المجتمعي الذي تعد به الحكومات على حساب طلب إقرار الحريات وحقوق الإنسان وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة
وفي عام 1980 اعتقلته السلطات السوفييتية وجردته من كل ألقابه، إلا أنه استمر في كتابة مقالاته النقدية المنادية بالتغيير الديمقراطي حتى أفرج عنه الرئيس قبل الأخير للاتحاد السوفييتي غورباتشوف في 1986. وصار سخاروف حتى وفاته في موسكو في عام 1989 رمزا لمقاومة الاستبداد وللمعارضة السلمية ولطلب الديمقراطية.
يصبح التساؤل المشروع، إذا، هو لماذا يعجز مفكرو التغيير ودعاة التنوير العرب عن مقاومة الاستبداد بين ظهرانينا ومواجهة الحكومات السلطوية؟ ولا أعني في هذا السياق مجرد وجود أصوات نقدية لمفكرين ينشدون التقدم ويطالبون بالتغيير الديمقراطي، فبلاد العرب لم تعدم مثل هذه الأصوات بكل تأكيد إن قبل أو بعد انتفاضات 2011 الديمقراطية. بل المقصود هو حضور مفكرين يستطيعون الانتقال بنقدهم إلى مرحلة ثانية عمادها الفعل السياسي السلمي على أرض الواقع لإحداث التغيير.
تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية، وبغض النظر عن احتمالات النجاح والفشل، هو حلقة مفقودة في بلداننا التي لم تسر بعد على طريق البناء الديمقراطي. تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية هو الذي يضفي على أصوات المفكرين النقديين الشرعية الأخلاقية والمصداقية القيمية القادرة على تحريك المواطنين للمطالبة السلمية بالتغيير.
تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية هو ممارسة للسياسة تتجاوز بوضوح صياغة البيانات المنادية بالديمقراطية وكتابة المقالات الناقدة للحكومات السلطوية.
وقناعتي أن العجز عن مقاومة الاستبداد وعن الوقوف سلميا في وجه الحكومات السلطوية طلبا للتغيير دون هدم أو فوضى إنما يتعلق، من جهة، بإيمان أغلبية المفكرين العرب بكون الدولة الوطنية ومؤسساتها، وليس المجتمع وفعالياته، هي الوحيدة القادرة على إحداث التغيير وكون باب الديمقراطية إنما ينفرج فقط من خلال إقناع الحكومات ونخبها بجدوى التحول الديمقراطي.
أما حين ترفض النخب التغيير وتتمسك بامتيازاتها، وذلك هو حال النخب العربية خاصة في أعقاب انتفاضات ربيع 2011 وفي أعقاب الموجة الثانية 2018 ـ 2020، فتنزع أغلبية المفكرين العرب إلى رفض التغيير خوفا من الهدم والفوضى وتجنح إلى تفضيل أوضاع الاستبداد والاستقرار المجتمعي الذي تعد به الحكومات على حساب طلب إقرار الحريات وحقوق الإنسان وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة.
ومن جهة ثانية، تتملك المفكر العربي نظرة ذاتية لموقعه ودوره العام قوامها الانفصال عن خريطة القوى المجتمعية. لا تعرف أغلبية المفكرين العرب هويتها على نحو يرتبط عضويا بالمجتمع وحقائقه وآماله، بل تشدد على الانفصال الزماني والمكاني عن المجتمع «المتأخر» و«الرجعي» وغير ذلك من التوصيفات السلبية وتعمم من ثم الفهم الطليعي الزائف لدور المفكر وترتب في التحليل الأخير تواصل الجمود المجتمعي وفشل مساعي التغيير.
كاتب من مصر
المعادلة سهلة: اذا لم توفر السلطوية الازدهار والرخاء كما حدث مع النمور الآسيوية ثم تنتقل الى الديمقراطية في المرحلة اللاحقة فلا تتوقع الاستقرار والبقاء.
السؤال هو: لماذا خان الفكر العربي المعاصر الإنسان العربي؟ولماذا قبل أن يكون ذيلا للحاكم العسكري الجاهل، ومسوّغا لجرائمه وغشوميته، ومستدعيا له عندما هبت الجماهير سعيا للحرية والكرامة، ثم وهو الأكثر سوءا رضي هذا الفكر أن يكون أداة في يد الثورة المضادة التي قادها الأعراب وأعداء الحياة ولصوص الأمة؟ قال وزير ثقافة أسبق لقد دخل المثقفون الحظيرة! وصدق وهو كذوب، فقد رضوا بالقتات مقابل خيانة الأمة وتحطيم آمالها، والأشد نكرا أن العديد منهم قاموا بدور الجستابو والمحرض على القلة التي تمسكت بمبادئها ودفعت الثمن من حريتها ووجودها. هؤلاء ليسوا تنويريين بأي معنى. إنهم ظلّام، وظلمة.
اتقدم بالشكر الجزيل للقدس العربي والكاتب فالمقال برمته رائع جدا ولا مجاملة، تشخيص علمي (طبي) وتحليل أدبي ووصف فني بلغة دقيقة ومبينة وبليغة تجمع بين دقة ملاحظة العالم، وصدق تقرير الصحفي، ومرهف إحساس الفنان الأمين. عايشت شخصيا الحقبة التي تصورها الفقرات الثلاث الأولى والتي شدت انتباهي وعكست مما في خاطري وهزتني كالرنين.
إن مناسَبة طرح الموضوع في دوام عصف الأخبار التي “تسُم البدن”وطول “مطال” التبلد والأمل والركود “الثوري” مناسِبة.
وأخيراً، عنوان من (د عمرو حمزاوي) يلخص إشكالية، كل مثقف وسياسي، أو موظف النظام البيروقراطي، في دولة الحداثة بنسختها الفرنسية (التعايش مع السلطوية أم طلب التغيير… عن حيرة الفكر العربي المعاصر) نشرته جريدة القدس العربي،
أساس الحيرة، هو مسألة التخيير، حسب حكمة العرب تقول (إذا تريد تحيره خيره)، لأن أي موظف، لا يجوز استخدام عقله،
في الفهم أو التفكير، لأن في تلك الحالة، لن يكون اقتصادي أو منافس في الإنتاج لأي منتج على أرض الواقع،
لأن المسؤول الفاسد، يحتاج من هو أفسد منه، لضمان تمرير أي موافقة، على أي صفقة، بداية من قاضي المحكمة، حتى في أمريكا،
والدليل قضية (تيسير علوني) في القضاء الأوربي الذي نشرت تقاريره قناة الجزيرة، بخصوص أفغانستان بعد 11/9/2001،
بينما زميله، في سياق نفس الفترة، وأرسل نفس تقارير الإعلام في وقتها،
الآن في عام 2020، مستشار تسويق إمارة دبي، إعلامياً، وبقية الإمارات العربية المتحدة، والسبب لأن فضائية الإمارات لم تنشر ما كان يرسله، في حينها،
تحية للجميع
الامر لا يمكن مقارنته بدول وشعوب اخرى فالمفكر العربي يواجه قوى كثيرة غير السلطة فهناك رجال الدين وشيوخ القبائل واي مساس بمصالحهم وهناك امثلة كثيرة على قتل وتشريد مفكرين من قبل رجال الدين وتابعيهم قبل السلطة فعلينا ان نبدا بمواجهة اعداء كثيرين داخل مجتمعاتنا حتى نستطيع مواجهة السلطة