عندما نفتش عن أفضل نظام سياسي ـ اقتصادي يؤمن بمبادئ ومكونات العدالة الاجتماعية، ويعمل من أجل تفعيلها في الواقع الإنساني والدفاع عن ذلك التفعيل، ويساهم في تحسين فهم ومنطوق تلك المكونات والمبادئ، وتحسين ظروف تطبيقها في الواقع لتكون مقبولة من غالبية أفراد المجتمعات ورافعة لإنسانيتها.. فمن الضروري أن نعرف خلفية ولادة ومسيرة النظامين السياسيين والاقتصاديين اللذين هيمنا على الساحتين العالميتين عبر القرون الثلاثة الماضية. الأول ما توافق الناس على تسميته بالنظام الليبرالي الرأسمالي، والثاني هو النظام الاشتراكي بتلاوينه الماركسية المختلفة.
لقد ولد كلا النظامين من رحم أفكار الأنوار الأوروبية، التي قادت إلى مطالب العصرنة والحداثة، وضمت تلك الأفكار والمطالب ما يلي: ضرورة إجراء تحولات جذرية في الاجتماع والسياسة، الأهمية الكبرى للحرية الفردية، الإيمان بأن التقدم ظاهرة حتمية، إن أحد أهم وسائل مسيرة ذلك التقدم هو المساواة في المواطنة، وانتشار وترسيخ العقلانية، بدلا من الخرافات والغيبيات (وهو ما سيهيئ لتنمية رأي عام مستنير)، ممارسة المواطن لحقوق سياسية متعددة، تقود إلى نظام حكم ديمقراطي تمثيلي، ووجود مجتمع مدني نشيط وفاعل في الحياة العامة مواز بندية لقوة سلطات الدولة، وأخيرا، وكاستجابة لانتقال المجتمعات الأوروبية من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، إعطاء أهمية كبرى لأن تكون المجتمعات منتجة اقتصاديا، على أن يخضع ذلك الإنتاج الاقتصادي لشروط التبادل التجاري الحر المستقل، إلى حدود كبيرة عن تدخلات الدولة.
هناك تفاصيل وتجاذبات كثيرة حول كل فكرة ومطلب، لسنا معنيين هنا بها. المهم أنه بمرور الزمن فإنها جميعا لم تتحقق في الواقع كما أراد أصحابها لها: إما لأن جهات مستفيدة شوهتها وحرفتها واستعملتها لصالحها، أو لأن البشرية أعجز من أن تحمل مسؤولية تلك الأفكار والمطالب التغييرية الهائلة، وتدافع عنها، أو لأن واقع الحياة وتطوراتها المتلاحقة جعلت بعضا من تلك الأفكار والمطالب خارج الزمن، وتحتاج إلى تعديلها أو استبدالها.
هناك مطالب بمراجعة الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية، إذ كلتاهما تعيشان
أزمة حقيقية
والمهم أيضا أن نعرف أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي، لم يعرفا كيف يستفيدان بصورة صحيحة وعادلة وشاملة مما كانت الأنوار والعصرنة قد طرحته. الآن في هذه اللحظة، هناك في بلدان منشأ الأنوار والعصرنة، شكوك كثيرة حول ما طرحا، وهناك مطالب متعاظمة بمراجعة الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية، إذ كلتاهما تعيشان أزمة حقيقية، هما ومن يحملهما من أحزاب وحكومات وأفراد، خصوصا على ضوء ما رآه القرن السابق من جرائم حقوقية باسم الاشتراكية والفاشستية، وما يراه قرننا الحالي من ظلم وفقر وأزمات باسم النيوليبرالية، خصوصا على ضوء الصعود الحالي للشعبوية وللوطنية العنصرية ولأنواع كثيرة من الصراعات الجندرية والدينية. الحديث عن بديل ثالث يجمع أفضل ما في الاثنين كثير ومتعدد، لكن ما سيقود إليه غير معروف ومبهم. لكن ما يحز في النفس هو العودة إلى تأكيد البديهيات بعد ثلاثة قرون من ادعاء الأنوار والحداثة. المهم أن فتح باب النقاش حول النظام السياسي ـ الاقتصادي الصالح لبلاد العرب، والضامن لقيام دولة العدالة الاجتماعية، لا يستطيع أن يتجاهل تلك الخلفية التي فصلنا بايجاز، حتى لو كانت لمجتمعاتنا العربية خصوصياتها وظروفها. لكن يجب أن تبقى التجارب العربية المختلفة، عبر سنوات ما بعد الاستقلال الوطني، هي المحور الأساسي الذي يجب أن يقود ذلك النقاش وتلك المراجعة، من أجل الوصول إلى نظام سياسي ـ اقتصادي عربي حديث عادل وخادم لمطالب العدالة الاجتماعية، بحيث تتبناه الجماهير العربية، وتناضل من أجله.
تلك المراجعة ـ يجب أن ترفض الشطط في الفردية، حرية ومعيشة، وأن ترفض وجود فقر أو وجود غنى فاحش، أو هيمنة حرية الأسواق، بدون ضوابط تضعها دولة الرعاية الاجتماعية، أو غياب ديمقراطية شرعية تمثيلية، أو هيمنة الخرافات على العقلانية، أو استعمال الدين بانتهازية وبتبريرات منحازة للظلم وللسلاطين ولحكم الفئة في الحياة السياسية، أو إضعاف وجود مجتمع مدني نشيط وفاعل ومستقل عن سلطة الدولة، أو امتلاك وسائل الإنتاج الاقتصادي وخيراته من قبل أقلية، أو تخلي الدولة عن التزاماتها في توفير الخدمات الاجتماعية مثل، التعليم والصحة والعمل والسكن، أو هيمنة قوى الحكم على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي واستغلالهما بدون تنظيم ذلك من خلال القوانين التشريعية والقضاء المستقل فقط. نحن العرب، نحتاج إلى نظام كهذا، وبمواصفات كهذه. أما التسميات فليست هي المشكلة.
*كاتب بحريني