تتأسس وظائف وسائل التواصل الاجتماعي، ومختلف الشبكات والتطبيقات التكنولوجية ذات البعد الاجتماعي على خلق سبل التواصل، وتسريعه، وتقاسم الآراء والأفكار والصور. وبحكم قوة الاستخدام لهذه الوسائط، وما تتميز به من سرعة الخدمات التي توفرها لمستخدميها، إضافة إلى قدرتها على تنويع خدماتها، فقد حظيت باستخدام كبير، أدى إلى تحول على مستوى تفكير الفرد/المستخدم، وانتقال حياته من نمط إلى آخر، بناء على كون الوسائط التكنولوجية ليست مجرد أدوات تقنية، إنما وسائط إدراكية، تُغير التصور للذات والمفاهيم.
وعليه، فإن سرعة الاستخدام، والخضوع لإغراءات الخدمات التقنية، وسعة الواقع الافتراضي، وانفتاح المُستخدم على انتماءات هوياتية جديدة، بالانخراط في فضاءات متنوعة، وفتح علاقات مع بيئات مختلفة، والدخول في تجارب اجتماعية أو فكرية أو اقتصادية، تمكنه من الإحساس بالانتماء إلى بيئات بتعاقدات جديدة، أسهم في سرعة الانتقال على مستوى مفهوم الذات، ومعنى وجودها.
ولعل من أهم مظاهر التحول في شخصية المُستخدم للوسائط التكنولوجية، من خلال المنصات والمواقع الاجتماعية، أو التي يتجلى فيها ما يسمى بـ»تحول المفاهيم» من تعاقد ثقافي/اجتماعي سابق/مألوف إلى تعاقد جديد يُولد في الافتراضي، ويتشكل من منطق خوارزميات الشبكة هو الصورة الذاتية للفرد المُستخدم للمواقع والمنصات الاجتماعية.
تركز الشبكات الاجتماعية بمختلف أنواعها على الصورة الذاتية، وتدفع في اتجاه عولمة الصورة، ومن خلالها بناء مفهوم خاص وموحد للجمال، بتحديده شكلا جسديا، له محددات وتجليات، وتعمل على تثبيت المفهوم بواسطة أدوات بشرية (المؤثرون/المؤثرات) تُولد في الفضاء الافتراضي، ثم تنزل إلى الواقع بعد حصاد المشاهدات، وتنميط الصورة المُبرمجة باعتبارها سلطة لا تقهر، تُحصنها المشاهدات، وتُدعمها المتابعات.
تتم عملية تنميط الصورة، ومفهوم الجمال من خلال علاقة ماكرة تتم بين الأدوات البشرية الافتراضية من جهة أولى، وعبر الزبائن التابعين والمحققين لسلطة جديدة، باتت تُشكل معيارا جوهريا في مقياس النجاح، وهو ما يُعرف بـ»التريند» الذي يتم اعتماده في التقارير وفي الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وتحول إلى سلطة فاعلة في تدبير الرأي، وصناعته، واللعب به، أو على الأقل، العمل على التحكم في توجيهه نحو انشغالات قد لا تكون ذات أهمية لانشغالاته الأساسية من جهة ثانية، ثم المتورطين في ممارسة لعبة التنميط تحت ضغط التريند، وقوة التحكم في التوجيه من جهة ثالثة، ينتج عن ذلك تشكل فئة طيعة أمام الخضوع لعملية تنميط الصورة ومفهوم الجمال، بل الأكثر من ذلك، تتحول هذه الفئة من ذاتٍ خاضعة إلى أداة تمرير الخضوع، وموضوع يتجلى مجتمعيا، يكشف حقيقة التنميط وأيديولوجيته. ومن أجل تسليع الجسد، وإخراجه من وحدته، وجعله عبارة عن تفاصيل غير منسجمة، فقد تم اعتماد الجسد نفسه لتمرير هذا النوع من عولمة الجمال، أو كيف ينبغي أن يكون جسد المرأة والرجل في زمن التكنولوجيا.
وبالعودة إلى مفهوم الجمال المنتشر في الافتراضي، والمُتحول إلى الواقعي، سنجده مفهوما يُكرس التشيؤ كما ظهر مع الثورة الصناعية، وشكلته الرأسمالية، وتجلى في المصنع، حيث الإنسان يُصبح عبارة عن أجزاء فاقدة للوحدة، ومن ثمة، تحديد الجمال في جزءٍ خارج نظام الوحدة، غير أنه تشيؤ اكتسب – مع الثورة الرقمية – مهارته في التشييء المبتذل الذي يتفنن في تبخيس الجسد، بتحويله إلى مادة مُستهلكة حسب نسبة المشاهدات، مع اعتماد البعد الجنسي في إدارة أجزاء الجسد، والإعلاء من الواقع المادي للجسد أكثر من شحنته الرمزية، ما أنتج ظواهر اجتماعية عِوض رؤى جمالية، وذلك بفعل الخدمات التكنولوجية الوسائطية، وما تتميز به من السرعة وقوة الانتشار، وسهولة الاستخدام ومرونة التقاسم.
بناء على ذلك، فقد انتقلت عملية إنتاج المفهوم، وتدبير دلالته اجتماعيا من الرؤية الفلسفية والفكرية، والتعاقدات الثقافية، والذائقة الجماعية، وشروط السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ما يجعل المفهوم رؤيةَ، ودلالته عبارة عن أجرأة للمفهوم ضمن سياق ثقافي واجتماعي خاص، إلى صورة مُبرمجة تكنولوجيا، تتغذى بخوارزميات الشبكة، وتتحكم فيها خدمات التكنولوجية، وتنتعش في فضاء الافتراضي، ويتحكم في إنتاجها وتسويقها مجموعة من الزبائن. أصبح للجسد مصممون، مثل مصممي الأزياء، وأصبحت له دُور لتنحيف أجزاء، وملء الأجزاء الأخرى، وجعله تصميما مفصَلا حسب العلاقة الثلاثية (المؤثر/ المُحقق/ الخاضع).
أصبح الجسد هوسا، وعبئا على حامله، ويخضع لمقص المصممين. ولهذا، بدأنا نرى ظواهر اجتماعية للجسد وحامله، ونرى في الوقت ذاته، المدافعين عنها، والمنتصرين لها، والمشتغلين من أجل تعميم هذه الظواهر التي تتناسل بشكل كبير، وتُحدث معها أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية، وتطرح أسئلة كبرى حول «الذات» ومن يتحكم في تصميمها خوارزميا.
تدخل الصورة الذاتية الافتراضية باعتبارها محتوى معياريا في علاقة بمفهوم الجمال، وطبيعة الجسد في تمرير الصورة الجديدة للهوية. فما يتم الدفع به من خلال الاستخدام الاستهلاكي للجسد (الأنثوي والذكوري على السواء) يدفع نحو تبني الهوية الجديدة، وتملكها بسرعة، ثم إعادة نشرها وتقاسمها. ولعل الخطورة في ما يحدث، أن الأمر لا يقف عند الخضوع لهذا النموذج، إنما بمجرد استخدام المفهوم، وإدخال الجسد في لعبة الجمال المحدد، في تركيبة غير منسجمة من الأجزاء، فإن المُستخدِم يتحول إلى عامل تأثير، وكلما حصد أعلى المتابعات والمشاهدات، أصبح مُنتِجا للنموذج بطريقة أكثر ابتكارا، وتحول جسده إلى هوية جديدة، تُورط آخرين في صناعة المفهوم المُبرمج.
لقد أصبحت الصورة الذاتية المبرمجة بالمفهوم التجزيئي للجسد، مع توجيهه نحو البعد الجنسي هي المعيار الجوهري للهوية المفترضة للفرد ذكرا أو أنثى. وما يُعزز هذا التصور، أن الواقع تورط في الخضوع لهذه الهوية المفترضة، بدليل أن المجالات والسياقات الواقعية أصبحت تستقبل القادمين من الافتراضي (مُؤثرين ومؤثرات….) باعتبارهم صورا نموذجية للهوية الجديدة بوصفها أفق كل شاب/شابة، ومن أجل إنجاح تجارةٍ أو مشروعٍ، فإن الصورة الذاتية المفترضة هي الضامن لجلب المال، وتسويق مفهوم النجاح خارج أبعاد الحلم والطموح والعمل وإبدال العقل والجهد.
نظرا لذلك، فقد أصبح الجسد هوسا، وعبئا على حامله، ويخضع لمقص المصممين. ولهذا، بدأنا نرى ظواهر اجتماعية للجسد وحامله، ونرى في الوقت ذاته، المدافعين عنها، والمنتصرين لها، والمشتغلين من أجل تعميم هذه الظواهر التي تتناسل بشكل كبير، وتُحدث معها أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية، وتطرح أسئلة كبرى حول «الذات» ومن يتحكم في تصميمها خوارزميا، ومن يدفع في اتجاه إقصاء العقل من حامل هذه الظاهرة، وهل يتعلق الأمر بمشروع يُحول الإنسان إلى مجرد صورة نمطية، يتخلى فيها الإنسان عن إدراك ذاته باعتبارها فاعلة ومفكرة، وتُعقلن ذاتها بذاتها، وليس عبارة عن صورة يتم تصميمها وِفق توجهات مُبرمجة، وتتحول إلى قطيعٍ، يتم الدفع به نحو المُستقبل دون سندٍ إنساني، أو أفقٍ فكري. قد يقول قائلٌ: إن التكنولوجيا صناعة الإنسان، فكيف يمكن أن يضر الإنسان نفسه، ويجعل عقله يستقيل بمحض إرادته؟ إنه سؤالٌ جيدٌ، وقابلٌ للطرح، ما دام المنتوج الإنساني التقني يثير مخاطر كبيرة على الإنسان صانع المنتوج التكنولوجي، غير أننا عندما نعود إلى علاقة الإنسان بمنتوج عقله وفكره، سنلاحظ أن المنتوج يتحول إلى أداة للتفكير في الإنسان، عندما يتعلق الأمر بالفلسفة والأفكار والمفاهيم. فالإنسان هو الفيلسوف، وهو الذي صاغ السؤال الفلسفي عندما طرح سؤال المعنى حول وجوده أولا، ثم ذاته ثانيا ثم واقعه ثالثا، وما تفرع عن هذه الأسئلة من فلسفات حاولت كل واحدة أن تقترح مقاربات من وجهة نظر رؤيتها للإنسان في علاقته بالطبيعة والواقع والافتراضي. وبالتالي، حولت الفلسفات الإنسان إلى موضوعٍ لها، تفكر فيه بأسئلتها وأدوات تفكيرها، والأمر يتعقد أكثر عندما يكون المنتوج تقنيا وصناعيا وتكنولوجيا. ففي مثل هذا الوضع يُصبح للتقنية سلطتها، بحكم منطقها الذي قد يتجاوز الإنسان ضمن حدود إمكانياته، كما يحدث اليوم مع الذكاء الاصطناعي والأتمتة والروبوت، دون أن يعني ذلك خضوع الإنسان التام للتقنية، لأن دور الفلسفة التي تطرح السؤال الجوهري على التحول التاريخي ومواده، تستطيع أن تُعيد التوازن بين الإنسان ومنتوجه العقلي، وتثير مخاطر الهيمنة التقنية.
إن الأزمة الحضارية تحدث عندما يغيب السؤال الفلسفي، ويتوقف الفكر، ويتم تدجين العقل، ويتحول أفراد المجتمع إلى قطيع بتوجيه أيديولوجيا ما. ولعل فهم ما يحدث في عالم الافتراضي، وداخل المواقع الاجتماعية من تشييء للجسد، بطريقة التصميم المُبرمج، ونشر مفهوم جديد للجمال لا يحترم طبيعة الإنسان، يُدخل المستخدمين للمواقع الاجتماعية، بدعم من الأدوات البشرية في متاهة لا تنتهي إلا بالخضوع التام لهذا التصور. ولهذا، فإن فهم العالم التكنولوجي يحتاج إلى استثمار تراث الفكر الإنساني من فلسفات الإنسانيات.
روائية وناقدة مغربية
التحية و التقدير.
دائما ما يكون امتلاك مجموعة من الامكانيات سلطة على من لا يمتلكونها.
ذلك ان مالك علوم التكنولوجيا و تطبيقاتها الاعلامية و الأدواتية من حواسيب و غيرها سوف يسيطر على من لا يتوفر عليها.
و لهذا يظل نشطاء و الفاعلين و القوة الحية في مختلف الدول المتخلفة على صعيد التكنولوجيا، ما فتئوا ينادون بضرورة الاستثمار في الموارد البشرية و تعليمها تعليما متقدما و الاعتناء بالانسان في صحته و قوته.
لكن الحاح تلك القوى على شروط التقدم و التطور يتصادم مع خذلان القرار السياسي الذي لا يرى فيما تنادي به القوى الحية على انه اولويات انما تغوص مجهودات النخب السياسية الحاكمة في مجالات الامن و مراقبة الرعايا و تدبير الريع لتدجينةالقوى الحية.
و لهذا فما دام القرار السياسي متخاذلا غير حر و مستقل فسوف يطول سبات الطاقات المجتمعية حتى تنضج شروط التغيير بفعل الارادة الشغبية او الزمن .
الاشكال في المسألة ان الصدفة لا تعويل عليها لانها شرط اعمى محايد لا يبنى عليه بشكل واعي و منطقي.
{ إن الأزمة الحضارية تحدث عندما يغيب السؤال الفلسفي، ويتوقف الفكر، ويتم تدجين العقل }.حيّاك الله يادكتورة زهور كرام؛ وعود أحمد بعد غياب…عساك بخير تمام.في حال غياب السؤال الفلسفيّ وتوّقف الفكر وتدجين العقل؛ لا تحدث أزمة حضاريّة فقط بل سيكون الانقلاب وسط هيولي من التيه؛ كتيه بني إسرائيل في سيناء لأربعين سنة وعامّ.
إنّ الأزمة قابلة للحلّ…لكن غياب السؤال الفلسفيّ ووو و فيه ( انحلال ) وتحجّر؛ حتى يوشل الماء من الجسد فيتصلّد كالفخار.وهذه مرحلة لا يزال الواقع الإنسانيّ: الافتراضي والحقيقيّ معًا؛ لم يصلها؛ وإلا ستكون ( القيامة ) الصغرى.
عودة ميمونة لقراء قدسنا العربي سيدة زهور كرم تحياتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . مقال قمة الفلسفة ودقة التعبير واستخدام مصطلحات على مستوي عال من الثقافة وهذا شيء جميل عند قراءة مقال على هذا المستوى تشعر بسعادة لما فيه من مفهوم جيدا وحديث لما نعيش فيه ووضع يده على ما يقدم للإنسان من خلال التكنلوجية وسهولة الوصول الى العلم وتغير شخصية الانسان الى الاحسن من خلال استعمال التقنية الحديثة وتشكيل وعي الانسان وثقافته ويجب ان اعترف بجمال هذا المقال لأني من الذين استفاد من التكنلوجية الحديث وانا خمسون عام بعيد عن كتابة العربي والان يجتهد لكتابة العربي والفضل يرجع لهذه التكنلوجية الحديثة . واحترامي لكاتبة هذا المقال وهل من المزيد . واحترامي وحبي لجريدة القدس العربي . وشكرا