التكنولوجيا وسؤال التركيز

حجم الخط
2

انطلق في المغرب يوم الخميس 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 «البراق»، أول قطار فائق السرعة في إفريقيا، يختصر المسافة بين قطبين اقتصاديين للمغرب، طنجة عاصمة شمال المغرب، والدار البيضاء عاصمة الاقتصاد المغربي، في ساعتين فقط، بدل خمس ساعات.
الانتقال من مدة زمنية إلى أخرى هو انتقال بنيوي في مفاهيم عديدة، منها المكان والزمن، البداية والنهاية، المسافة والمساحة، السفر والمشاهدة، التفكير والتأمل، الإنتاج والتسويق، وغير ذلك من المفاهيم التي قد لا ينتبه إليها الإنسان العادي، لكنها حاضرة في الوعي الاقتصادي والسياسي والخدماتي، باعتبارها طفرة اقتصادية، غير أنها مفاهيم سرعان ما تبدأ في التحول في وعي الإنسان العادي، وفي سلوكه وفكره، وفي ردود فعله، فتُغيره، وتُحوله إلى كائنٍ جديدٍ ومختلفٍ. إنه انتقال في قيم التأمل والتركيز والحلم والتذكر، وإعادة ترتيب فوضى الذاكرة.
يمنحنا السفر في القطار العادي والسريع فرصة مُشاهدة الطبيعة بتفصيلاتها وأفقها، ودعوتها إلى مرافقتنا، إنها تُسافر معنا، وتمنحنا، في الوقت نفسه، إمكانية الامتداد والتذكر. وعندما نصل إلى محطةٍ، نكون قد عشنا حياة خاصة استثنائية، قبل أن نغادرها، تكون صور التأمل ومشاهد التركيز وأفق الحلم قد أخذت مكانها في فضاء الذاكرة. ليس السفر مجرد انتقال في المكان وحسب، إنه حياة وتجربة وحالة. عندما يتغير إيقاع السفر، يتأثر التأمل والتذكر والتركيز والحلم، ومن ثمة، تتغير الذاكرة. كيف تُصبح ذاكرتنا مع السرعة الفائقة؟ وإلى أي حد نمتلك القدرة على الاحتفاظ بقيمة التأمل؟ وما مصير التركيز مع السرعة الفائقة؟

الأسئلة التي يطرحها الابتكار التكنولوجي فائق السرعة هو موضوع مصير «التركيز» مع السرعة الفائقة التي تنتقل من التكنولوجيا إلى الحياة اليومية.

يدخل «البراق» في إطار منجزات الثورة التكنولوجية، التي تُغير الزمن والمكان، ومن ثمة تُؤثر في شروط الوجود الإنساني. تتميز التكنولوجيا بخاصية السرعة الفائقة في الابتكار، وهي السرعة التي تفعل في حياة الإنسان وتفكيره، وفي معنى وجوده. مع كل ابتكارٍ تكنولوجي نُصاب بالدهشة العلمية، وهذا حق مشروع وطبيعي، يدخل في إطار الفرح الإنساني الذي يشهد مكتسبات زمنه العلمي والتكنولوجي، غير أن سرعة التكنولوجيا في ابتكار منجزاتها، قد تُلغي سؤالا ضروريا، إن لم نقل فلسفيا، حول علاقتنا بالتكنولوجيا.
ماذا تمنحنا التكنولوجيا؟ وماذا تأخذ منا؟ لا يحضر السؤال الثاني باعتباره نسفا للسؤال الأول، أو سعيا إلى ضرب دور وأهمية التكنولوجيا في تحسين وضعيات الإنسان، وتحقيق شروط التنمية. إنما السؤال الثاني يشتغل بوصفه خطابا مُوازيا للأول، من أجل الوعي بابتكارات التكنولوجيا، وكيف يمكن الاستفادة من التكنولوجيا، بدون العبث في إنسانية الإنسان. ولعل من بين الأسئلة التي يطرحها الابتكار التكنولوجي فائق السرعة هو موضوع مصير «التركيز» مع السرعة الفائقة التي تنتقل من التكنولوجيا إلى الحياة اليومية.
بالنظر إلى منطق الزمن التكنولوجي، فقد أصبح الإنسان يعيش حياتين. واحدة داخل شبكة الإنترنت، وأخرى في الواقع المادي. تتميز الحياة الأولى بمظهرين: السرعة الفائقة من جهة، وتعدد المهام أو الأفعال التي يُنجزها الإنسان في هذه الحياة من جهة أخرى، لأن أي مُستخدم للشبكة يجد نفسه في وضعية إنجاز مجموعة من الحركات أو الأفعال في الوقت نفسه. يكتب رسالة، يتصفح موقعا، يتفاعل مع تعليق، يجيب على مكالمة عبر تطبيق الواتساب أو غيره، ينتقل إلى انستغرام، يُتابع صفحته على الفيسبوك، يفتح ملفا في محرك البحث، يدفعه إلى الخروج منه ثم احتمال العودة أو اللاعودة إليه، بفعل تقنية الرابط، وقد ينتقل بسرعة إلى المشاهدة، عبر صورة أو مقطع فيديو أو فيلم سينمائي أو مسرحية، قد لا يطلب المستخدم ذلك، لكنه يجد نفسه أمام إغراء الاقتراحات، فيُغريه الاكتشاف في الدخول في التجربة، وقد ينسى الإشارة الأولى لبداية الحياة في الشبكة، وقد لا يعود ينتبه إلى سبب دخوله الأول، وبحثه الأول، وحركته الأولى. وعندما يخرج من الحياة في الشبكة، قد يشعر بنوع من الإرهاق والتعب، وقد يحس بامتلاءٍ من المعلومات والصور والأخبار والتفاعلات إلى حد التخمة، فالغثيان لكونه مارس انتقالات متعددة بين فضاءات وأزمنة متنوعة، وجاب أماكن وسافر فيها، ومرّ سريعا على عناوين وصور. لقد قام بأفعال متعددة في مدة زمنية محددة، بطريقة سريعة. إنه المنطق الافتراضي الذي يُشكل جوهر شبكة الإنترنت، الذي لا يفعل فقط في المعلومات والاتصالات، إنما يُؤثر في صيغ الوجود الإنساني، وفي الأداء الاقتصادي، وفي مفهومين مهمين في حياة الإنسان وهما: الحلم والذاكرة. إنها حركة تحول جوهري، تذهب أبعد من الشبكة التكنولوجية، وتتحول إلى حالة اجتماعية جديدة على مستوى الحياة في الواقع المادي. يتأثر سلوك الإنسان بمنطق السرعة الفائقة، وعندها يتراجع التأمل، ويقل الصبر، ويضعف التركيز، ويحل التشتت والتجزيء.

التفكير في العلاقة بالتكنولوجيا، لا يخدم التكنولوجيا وحدها، إنما الإنسان وإنسانيته، لأن تحديد المقصد من أي مُنجز علمي، والتفكير فيه باستمرار مع كل ابتكار جديد، من شأنه أن يوفر شروط استخدامه.

عندما نقرأ، فنحن نُشاهد ونتأمل ونستمع ونرى. وعندما نُشاهد، فنحن نقرأ ونستمع ونتأمل، وعندما نستمع، فنحن نُشاهد ونتأمل ونرى. إن الجامع بين هذه الأفعال كلها هو التركيز مسار اشتغال هذه الأفعال. يفرض إذن، موقع الإنسان اليوم بين حياتين (افتراضية/ واقعية) طرح سؤال «نحنُ والتكنولوجيا»، أو بتعبير آخر، ما هي علاقتنا بالتكنولوجيا؟ وكيف تتحقق هذه العلاقة في سلوكنا وتفكيرنا وذاكرتنا؟ وماذا تأخذ منا التكنولوجيا، وهي تقترح علينا شرطا جديدا لوجودنا؟
إن التفكير في العلاقة بالتكنولوجيا، لا يخدم التكنولوجيا وحدها، إنما الإنسان وإنسانيته، لأن تحديد المقصد من أي مُنجز علمي، والتفكير فيه باستمرار مع كل ابتكار جديد، من شأنه أن يوفر شروط استخدامه، ويُؤمن خدمته للإنسان، ويُحصن مساره من كل انزياحٍ، قد يُحوله إلى عبثٍ علمي، أو فوضى في نظام الحياة، أو يكون سببا في دمار البشرية، واندلاع الحروب، وتأجيج الاضطرابات والصراعات الاجتماعية والسياسية، أو يُؤدي بالإنسان إلى محطة العبث الوجودي. عندما يتوقف استقبال الابتكار التكنولوجي على الدهشة، والفرح الإنساني بمكتسبات العقل والعلم، بدون المرور إلى مرافقة هذا المُنجز، والتساؤل حول قدرته على تحقيق الغاية الكبرى من تقدم العلم وتطور التكنولوجيا، فإن جوهر الابتكار يتلاشى، ومعه يتراجع دور التكنولوجيا في تأهيل الإنسان لحياة آمنة وسالمة وذات معنى وجودي. إن السرعة الفائقة للمنجز التكنولوجي، تُحدث شرخا في التركيز، الذي يعتبر أعلى درجات الانتباه، وينعكس ذلك على معنى الوجود، الذي قد يتحول- بدوره- إلى مجرد استهلاكٍ عابرٍ لما يتم استقباله، بعيدا عن تأمله، وإعادة ترتيبه وفق منطق التركيز والانتباه.
لا تعني الدعوة إلى سؤال التفكير في العلاقة مع التكنولوجيا، اتخاذ موقف من التكنولوجيا، والدعوة إلى التبخيس من قيمتها، ودورها في تقديم خدمات إلى الإنسان، إنما الدعوة إلى استثمارها الجيد والفعال، بوضع استراتيجيات بديلة، أو مرافقة، تعمل لتأهيل التكنولوجيا في حياتنا وعملنا، في تعليمنا وتربيتنا، ولمقاومة التشتت، الذي قد يُحول الإنسان إلى مجرد أجزاء، ولمواجهة العبور الذي قد يُنسف الذاكرة، والاحتفاظ بالتركيز قيمة إنسانية تجعل الإنسان محور الوجود. يبدأ التفكير في العلاقة بالتكنولوجيا من الوعي بضرورة تفعيل التفكير، فلسفيا وثقافيا ومعرفيا وعلميا. ولهذا، يبقى التفكير معلقا حتى إشعارٍ آخر، عندما تظل المؤسسات المنتجة للسؤال والعلم والثقافة غير معنية بهذا النمط من التفكير، وغير مهتمة بالانخراط في تاريخ الثورة التكنولوجية من مدخل السؤال الفلسفي الذي يُرافق التحولات العلمية، بالسؤال والتحليل وإضاءة الغايات الكبرى في علاقة التكنولوجيا بسعادة وأمانة وسلامة الإنسان.

٭ روائية وناقدة مغربية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بشرى زكاغ المغرب:

    تربت يداك دكتور بمناقشة موضوعة مهمة من موضوعات المجتمع التكنولوجي الشبكي وهي الزمن، وجوهر التعديل الذي أدخلته التكنولوجية الرقمية على الزمن، هو أنها تحكمت فيه من الداخل وبلغت به السرعة القصوى، حيث ألغيت المسافات، وتضاءلت أهمية المكان، ليغدو الزمن هو كل شيء، وليحل الوجود الآني في الأمكنة المتعددة محل الأبعاد المكانية، وليصبح بإمكان كل فرد أن يحيا اليوم في فضائه المحلي، لكن في الوقت ذاته ‘الزمن العالمي'” . ولا تعني لحظة الانتهاء وبلوغ الصفر بالنسبة للأفراد إفناء تاما للمكان والزمن، بحيث تنمحي التمفصلات الثلاثية للزمن، ويتم فك الارتباط بالمعلم والمكان، ذلك أن عليهم –أي الأفراد- أن “يرتبطوا دوما بركائز فيزيائية وينفعلوا هنا أو هناك، الآن أو لاحقا ، ولكن الزمن في الفضاء الشبكي وعبر كياناته الرقمية، أصبح يُخضع “الرواية التقليدية لمحك صعب: ‘وحدة الزمن دون وحدة المكان، ويحل التزامن محل وحدة المكان، كما يحل الترابط الكهربائي محل وحدة الوقت.

  2. يقول محجوبة بوشايت:

    إضاءة موفقة حول الجوانب المشرقة و المظلمة للتكنلوجيا و مدى خدمتها للإنسان، راقتني مقالتك دكتورة!

إشترك في قائمتنا البريدية