التكنولوجيا ولعبة التخييل

كثيرة هي التحولات، التي تحدثها التقنيات السمعية البصرية في ذواتنا، وفي منهجيات تلقينا، خاصة منها، تلك التي تفرض علينا أنماطا غير مسبوقة من أنماط التفاعل اليومي، حيث نجد أنفسنا، مطالبين بالتأقلم معها، مهما احتدت درجة تعقيداتها، سواء على مستوى تعاملاتنا اليومية البسيطة، أو على مستوى تأهيل بنياتنا الذهنية والتخييلية.
وفي اعتقادنا أن مرد هذا التأقلم، يعود إلى الميل الطبيعي لدى الكائن، للتعايش مع مختلف الرموز والعلامات التي يكتظ بها واقعه المعيش. وطبعا على أساس ما يتلقاه من صدمات تقنية، تخترق ذاته ليل نهار دونما استئذان. فعبر هذا التعايش، يتحقق اندماجه التلقائي في كل ما يفاجأ به من أنساق ثقافية ومجتمعية جديدة. كما تتحقق عبره، في الآن نفسه، تجربة تطوير مكونات لاوعيه الشخصي والجمعي.
وضمن التطور الشامل الذي يطال بنية اللاوعي، تحظى ملكة المخيلة هي أيضا، بنصيبها الملموس منه، نتيجة ما تتلقاه من تشكيلات بصرية، خاصة منها تلك الواردة عبر قنوات الضخ الإلكتروني. باعتبار أن حياة المخيلة، تتجدد وتتواصل، على ضوء ما يمدها به الواقع من إشارات. وهي العملية التي تتعرض معها العلامات اللغوية بدورها، إلى تحويلات وتحويرات، تسمح لها بالتكيف مع أوضاعها التعبيرية الجديدة. بوصفها واقعا معيشا، لا يمكن بحال صرف الانتباه عنه، ذلك أن العامل الدلالي للعلامة اللغوية، يتشكل بما ينسجه من علاقات تفاعلية مع معطيات الواقع، حيث يتجدد ضمن هذه العلاقة، رصيد المعجم اللغوي، بما يشمله من مفاهيم، معززة بمرجعياتها العلمية، لأن المفهوم، مهما بلغ من دقة الاختصاص، لا يلبث أن يغادر دائرته المغلقة بفعل تنوع توظيفاته، كي يمارس حضوره العفوي، في رحاب الحياة اليومية. وهي حياة تقتضي معالجة متطلباتها امتلاك المزيد من اللغات، الإشارات، المستمدة من عدة مرجعيات، تحسبا لأي طارئ لغوي يقع في هذا المجال أو ذاك. حيث ثمة دائما، ما يدعو لاستحداث بنيات تعبيرية، تساهم في إثراء المعجم، كي يقوم بمهامه التوصيلية التي استحدثتها الأنساق الجديدة، وهو ثراء يتحقق عبر الأنساق الافتراضية التي تمدنا بها التقنية، التي تساهم في فتح مسالك دلالية استجابة منها لحاجيات المستقبل. ومن بين أهم المكونات الفاعلة في هذه الأنساق، نستحضر مكون الصورة، الذي تتمحور حوله الممارسة الافتراضية، بكل ما تتميز به من أبعاد تخييلية. وطبعا، بالاستناد إلى تقنيات مؤهلة لصناعة عوالم، يتداخل فيها الواقعي بالتجريدي.
ومن الواضح أن المسالك الجديدة التي دأبت التقنية على اجتراحها، تلعب دورا أساسيا، في الانزياح بالصورة من فضاءاتها المعتادة، إلى أخرى ملتبسة. ما يجبر العين على المراوحة بين مرئي مألوف، وآخر غريب، يستدعى من قبل العملية التخييلية. وتبعا لذلك، سنلاحظ كيف تنزاح الرؤية عن فضاءاتها التقليدية، باتجاه أخرى أكثر تعقيدا، وقد أمست منتشية بجاذبية التباسها.

نستحضر مكون الصورة، الذي تتمحور حوله الممارسة الافتراضية، بكل ما تتميز به من أبعاد تخييلية. وطبعا، بالاستناد إلى تقنيات مؤهلة لصناعة عوالم، يتداخل فيها الواقعي بالتجريدي.

إن أهم ما يعنينا في هذا السياق، هو الإشارة إلى قدرة التخييل التقني المجسد في الصورة الثابتة أو المتحركة، على تجاوز منجز التخييل اللغوي، إلى أفق أكثر رحابة، لأن التخييل اللغوي، يظل خاصا بالذات المنتجة له، في انتظار عملية تخييلية مضاعفة يقوم بها المتلقي، من شأنها الانتقال بالمتخيل من إطاره الذاتي إلى آخر موضوعي ومشترك في آن. وهي عملية تتم عبر قراءتنا للخطاب حينما يكون مكتوبا، أو سماعنا له حينما يكون شفاهيا. مع اقتناعنا المسبق، بالدور الذي يقوم به تعدد مستويات القراءة والإنصات، في الانزياح بالمتخيل اللغوي عن دلالته الثابتة، كي ينفتح على تشكلاته اللانهائية، بفعل تعدد أساليب قراءاته أو سماعه، واقتناعنا بهذه المسلمة، لا يثنينا عن التأكيد بأن القيمة المضافة للمتخيل التقني، تتجسد في تحفيزها للتلقي المشترك، على اختراق مدارات العجيب والغريب. وهي مدارات مؤهلة لمزاحمة الواقعي، بفعل استنادها إلى خبرة تقنيات جد عالية.
وفي ضوء هيمنة هذا الصنف من التخييل على التلقي، تحول إلى مرجعية مركزية، لا يستغني التخييل اللغوي عن جماليتها، خاصة من جهة توظيفه لبنية الزمان والمكان. وهو امتياز، يعود الفضل فيه إلى سلطة التقنيات الحديثة التي أثرت في إغناء البعد البصري، الذي أثبت فعاليته في إعادة بناء الأعمال السردية وفق معايير جديدة، إلى جانب تأثيره المباشر، في انفتاح الرؤية على جماليات مستحدثة، تتيح للصورة إمكانية اكتشاف ما تتمتع به من أبعاد، حيث أمسى من الطبيعي أن يستأثر النص السردي، أو الشعري باهتمام المتلقي، كلما كان ممتلكا لشحنة تخييلية. قوامها التوظيف الخلاق للمنجز التقني.
وفي هذا الإطار، نستحضر ذلك الخيط الرهيف الفاصل بين التجريد والتخييل، حيث نجدهما يتماسان معا ويتداخلان. فكلاهما يرفد الآخر، بما يمتلكه من شحنة فكرية أو إبداعية، كلما عجزت بنياتهما التواصلية التقليدية، على إنجاز مهامها المنوطة بها. إن الذاكرة حينما تكون ـ على سبيل المثال- بصدد استعادة إبادة ما، تعود إلى أحد أزمنة القتل، فإن ذلك يتحقق بقوة كل من المخيلة والتجريد. علما بأن هذه الاستعادة، تخلو عادة من سمة التطابق، حيث تكون مشوبة بعامل الإضافة أو البتر. انسجاما مع قوانين التخييل والتجريد. لأننا لا نستعيد بهما دائما المشهد نفسه، بل نتخذ من المشهد الأصلي، أرضية لبناء مشاهد أخرى، مختلفة، متنوعة، ومتعددة. وضمن السياق الذي نحن بصدده، أي سياق التخييل والتجريد التقني، نؤكد على الأدوار الجديدة المنوطة به، لعل أهمها، قابليته للتحول إلى أرضية للعمل التأملي، أو الإبداعي. ما يجعلنا نخلص للقول، بأن التقنيات الحديثة، طورت مهام التخييل، حيث وضعته في عمق مدارات جديدة، مترعة بالجمال والتعقيد. لذلك، فإن إشكالية الاستفادة منه بوصفه منجزا حداثيا، تضعنا مباشرة في عمق الضرورة القصوى للمكون المعرفي، باعتباره أداة عملية للتعرف على الفوارق الكامنة بين مختلف أنماط الوعي والتعبير.
ومن المؤكد، أن التراكم المعرفي المندرج في هذا الإطار، يعتبر بمثابة وسيط موضوعي، للتواصل مع العالم. كما هو وسيط لتعميق منطق التفاعــــل معه، فكـــريا وإبداعيا، لأن الذهنية المؤهلة لنسج علاقة جدلية بين التخييل والتجــريد التقنيين، تختلف جذريا عن تلك التي تشكو من محدودية كفايتها. وكما هو معلوم، فإن تجذر هذه البنية لدى شريحة ثقافية ما، لا يتحقق بشكل اعتباطي، ولكن من خلال توجه ثقافي عام، يكون له دوره الأساسي في تطوير النقاشات، وفي طرح الإشكاليات. فضلا عن توسيع حقول المفاهيم، والأنساق. إلى جانب تحقيقه الانسجام المطلوب بين الباث والمتلقي. سواء على المستوى الإبداعي أو الفكري، وكلها عوامل من شأنها ردم الهوة الفاصلة بين العامة وبالنخب.
تلك هي المعرفة التي ترتقي بالمكون الترميزي إلى مكانته الطبيعية، بوصفه مقياسا للتفاعل الحضاري. إذ كلما ارتقى الكائن بفعالية هذا المكون، إلا وتحققت إمكانية تملكه للغة الوجود. ليصبح بالتالي، قادرا على قراءة نصوص الكون وفك أسرارها، باعتبار أن هذا الحد، هو الحيز المعنوي الذي تنبني فيه الإشكاليات الكونية الكبرى، وأيضا باعتبار أن الترميز، هو خلاصة الفعل التخييلي /التجريدي، لأن هندسة الكون، تنهض على هذا الأساس. بمعنى، أن التفاعل الفيزيائي والكيميائي للعناصر، هو المصدر الذي تستمد منه الكينونة وضوحها وغموضها. وهما معا مصدر حيرة الأسئلة المزروعة في لب الخطابات.

٭ شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Omar:

    التفاعل الفيزيائي والكيميائي غير مجرد من عناصره .. والعناصر مجرد مادي صوري لا نهائي .. ادن اللانهائيه الماديه او الروح بترميز اخر ليست خيال

  2. يقول S.S.Abdullah:

    لكن على أرض الواقع، تراكم أو أصل كلمة (كير)، في القانون الأمريكي، الذي أصدره دلوعة أمه (دونالد ترامب) في عهد كورونا، هي من عهد سلفه (أوباما كير)، ثم أصل موضوع التحضير لمكافحة الأوبئة في الإدارة الأمريكية، بدأت من عهد (بوش الإبن) في كلمة له عام 2005،

    ولكن عقلية الزعطوط، في نسف كل ما صنعه من سبقه، من أجل بناء عهد دلوعة أمه (دونالد ترامب) لتسريع ظهور (مهدي سرداب سامراء) بالذات، كما هو حال مهدي عام 1400 وعملية إحتلال الكعبة، حصل ما حصل،

    حتى بالنسبة لقضية فلسطين، وموضوع القدس والسفارة، والوقف الإسلامي في مدينة الخليل والقدس، لتحويله إلى وقف يهودي ببركة وقبول ممثلي آل البيت،

    الإشكالية الآن، هي موضوع ما هو الثمن، الذي يجب دفعه، إلى الأردن والمغرب وإيران، وممثلي حق آل البيت في كرسي السلطة وخُمس (الشفاعة/الرشوة)، لتطنيش ونسيان قضية (الوقف الإسلامي) في فلسطين، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية