يسمونها اختصاراً الـ«غافام» GAFAM، أي الأحرف الأولى من شركات غوغل وأبل وفيسبوك وأمازون ومكروسوفت، ورصيدها في البورصة العالمية يقارب 3250 مليار دولار أمريكي؛ وبالمقارنة مع الشركات العملاقة الأضخم في العالم، غير المتخصصة في التكنولوجيا الرقمية، تسجّل إكسون موبايل 362.53 مليار، مقابل 809.51 مليار لدى أبل؛ وجنرال إلكتريك 348.45، مقابل 730.91 لدى غوغل ألفابيت؛ ومجموعة فايزر للأدوية 192.05مقابل 691.3 لدى مكروسوفت؛ وهكذا…
الرأسمالية الكبرى تكمن هاهنا، في عبارة أخرى، ليس بمعنى رأس المال والرصيد في البورصة وأداة الإنتاج المختلفة والخاصة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها حصن النظام الرأسمالي الحصين، إذا جاز التعبير هكذا، تحتضن الـ»غافام» في مستويات أشدّ تعقيداً وتأثيراً من مجرّد منح المقرّات. لهذا فإنّ أستاذ الاقتصاد الفرنسي سيدريك دوران، في كتابه الجديد «التكنو ـ إقطاعية: نقد الاقتصاد الرقمي» الذي صدر مؤخراً ضمن منشورات Zones، يعيد إحياء مصطلح التكنو ـ إقطاعية الذي كان قد رأى النور للمرة الأولى في الولايات المتحدة أيضاً، سنة 1990، على يد لويد بلانكنشب الأب الروحي/ المؤسس للتهكير والمهكّرين. ولقد كتب الأخير: «بينما يزداد العالم خشونة، تتأقلم الشركات كي تكون أكثر خشونة، من باب الضرورة. وهذا الموقف المتمثل في قاعدة «نحمي أنفسنا أوّلاً» يُشار إليه أحياناً باسم التكنو ـ إقطاعية، وهو ردّ فعل على بيئة فوضوية، ووعد بتوفير الخدمة، وولاء منفصل عن العمال مقابل دعم وحماية من جانب الشركات (…) وفي ظلّ غياب أحكام تنظيم ملائمة، تتكاتف الشركات الكبرى لتشكيل كُتل شبه احتكارية. وفي سبيل جني أقصى الأرباح، تلجأ إلى تضييق خيار المستهلك وتستولي على، أو تمحق، المنافس الذي يمكن أن يزعزع كارتلاتها».
أهي، بذلك، حال تلاؤم مع أحدث تطورات النظام الرأسمالي، في ميادين التكنولوجيا على اختلاف البضائع وأساليب وأدوات الإنتاج؛ أم هي، بمنطوق الصفة الإقطاعية، ردّة إلى وراء في ما تزعم الرأسمالية، خاصة أجنحتها الليبرالية القديمة والمحدثة، أنها أنجزته على صعيد التقدّم في العلاقة بين العمل والعامل؟ ما الذي تفعله الرأسمالية للاقتصاد الرقمي، أو بالأحرى ماذا يفعلان ببعضهما؟ كيف يتلاقى مبدأ البحث عن الربح مع السيولة الرقمية، وكيف يتفاعلان؟ هل يمكن القول بأنّ تبدّلاً يجري في المنطق المنتظم، وأنّ أعيننا، وقد أصابها الزيغ من تشابك المآزق الرأسمالية، لم تبصره بعدُ كما ينبغي؟ هذه بعض الأسئلة التي تطرحها فصول كتاب دوران، وتسعى إلى الإجابة عنها عبر سيرورات أربع: تفكيك الظاهرة، واستعراض الأشكال الجديدة التي يتخذها الاقتصاد الرقمي أو يتشارك معها، والعواقب الاقتصادية لهذه «البضاعة» الرقمية المذهلة التي لا تبدأ من الرقائق ولا تنتهي عند جيل الـG5 المرتقب، ثمّ التساؤل في الختام عن ماهية الحصيلة التبادلية بين النظام الرأسمالي (على شاكلة إكسون موبايل مثلاً) والاقتصاد الرقمي (كما في نموذج أبل وأخواتها).
إنّ صعود التكنولوجيا الرقمية قد زلزل العلاقات التنافسية لصالح علاقات اعتمادية، تُزلزل بدورها الأواليات الإجمالية وتميل إلى تغليب الافتراس على حساب الإنتاج، فتتيح ولادة التكنو ـ إقطاعية
فصول كتاب دوران تستحق القراءة والتبصر (وبالتالي: الترجمة إلى العربية) خاصة في عالمنا المعاصر وعلى ضوء الاعتبارات الاحتكارية الهائلة للاقتصاد الرقمي، ومقدار تداخله وتدخّله في الحياة اليومية للمليارات من البشر، على أوجُه لا يكاد أيّ صعيد إنتاجي أو استهلاكي أو تربوي أو معرفي يفلت منها أو يتفادى تأثيراتها. وبعد ثلاثة عقود على تكريس الإجماع بصدد «سيليكون فالي» فإنّ التحوّل الذي أصاب تكنولوجيا المعلومات إنما يمسّ ركائز الإنتاج، ويزعزع مبادئه القاعدية، كما يساجل دوران. ولكن: «بينما كان تفاؤل التكنو ـ رأسمالية قد وعد بتجديد الشباب، فإنّ مسار الأحداث قد كشف عن أرذل العمر. إنّ صعود التكنولوجيا الرقمية قد زلزل العلاقات التنافسية لصالح علاقات اعتمادية، تُزلزل بدورها الإواليات الإجمالية وتميل إلى تغليب الافتراس على حساب الإنتاج، فتتيح ولادة التكنو ـ إقطاعية».
للمرء، مع ذلك كلّه، أن يعود إلى ركائز أقدم، ولعلها أبسط وأوضح، في تلمّس العلاقة بين قطاعات المعسكر الرأسمالي المعاصر (إذْ لا يزال يستحقّ صفة «المعسكر» أغلب الظنّ، حتى مع غياب «المعسكر الاشتراكي» النقيض)؛ هنا وهناك في فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا واليابان والصين (إذْ تجدر الإشارة إلى أنّ شركة «علي بابا» الصينية هي الوحيدة التي تنافس جماعة الـ»غافام» خارج الولايات المتحدة). بين هذه الركائز أنّ أخلاقيات اقتصاد السوق تواصل العيش وفق قواعد «ثقافة الرضا» حسب تعبير المفكر الاقتصادي الأمريكي/ الكندي جون كينيث غالبرايث. إنها جسم إيديولوجي اجتماعي ـ اقتصادي يلبس لبوس الديمقراطية (حين لا تكون هذه خيار مجموع المواطنين، بل أداة أولئك الذين يقصدون صناديق الاقتراع دفاعاً عن امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية)؛ وتفرز أجهزة حكم لا تنطلق في تطبيقاتها السياسية من مبدأ التلاؤم مع الواقع والحاجة العامة، بل من طمأنة الخلايا الدقيقة المنعمة والراضية، التي تصنع الأغلبية الناخبة. والفكر الاجتماعي الرسمي من حول هذه الثقافة لا يلحّ على قضية أخرى قدر إلحاحه على غياب مفهوم الطبقة، أو بالأحرى تغييب الطبقات. وبدلاً عن هذا التوصيف الكابوسي، الذي يرجّع أصداء الماضي وثورات البؤساء وانتفاضات الجياع، يلجأ ذلك الفكر إلى المجاز؛ فيتحدث في أمريكا عن «الطبقة السفلى» Underclass، وفي فرنسا عن الذين «بلا عنوان دائم SDF» وفي بريطانيا عن «المشردين» Homeless ؛ لكن المحتوى، في جميع الأحوال، يصف ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل، ويصف طبقات جديدة، وأخرى عتيقة.
لافت، في المقابل، أنّ الاستثمار الوظيفي لأداة الإنتاج، وفي سياق الموقف من ديمومة الشركة وإدامة أرباحها وتعزيز وجودها في البورصة، هو إحدى السمات المكوّنة في لاهوت الاقتصاد الرقمي الذي لم تدركه ثقافة الرضا كما تحدث عنها غالبرايث؛ وهو، على نحو أو آخر، أحد تفاعلات اقتصاد رقمي يرتدّ من حاضر رأسمالي إلى ماض إقطاعي. إنه موقف إلا ينكر التأزّم (حيث يتعذر الإنكار) لكنه يسعى إلى تأجيل الفعل اللازم لحلّه، وينحّي جانباً كل ما يثير «الاضطراب»: مظاهرات، إضرابات، ديمقراطيات مريضة، صعود للتيارات الشعبوية والعنصرية والفاشية حتى في قلب البيت الأبيض حيث القوّة الكونية العظمى. ولكن، إذْ يتساوى المتظاهر في أحد شوارع أمريكا مع الرئيس نفسه لجهة استخدام منصة «تويتر» مثلاً، فإنّ إدارة وسيلة التواصل الاجتماعية هذه تمارس من جانبها صلاحية حجب تغريدة المستخدمَيْن، أحدهما أو كلاهما، لأسباب يقدّر وجاهتها بيروقراطيون نافذون؛ وهذا أمر لا يمنع بيرواقراطيين نافذين آخرين في نفس المنصة من تسريب معلومات عن مستخدمين معارضين، لجهة أمنية سعودية مثلاً.
واليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على النظريات التي بشّرت ببزوغ فجر الرأسمالية واقتصاد السوق مرّة وإلى الأبد، وأنهت البشرية لصالح الإنسان الرأسمالي الأخير؛ ليس عسيراً أن نشهد استقطابات عميقة تتحرّك في السطوح الأعمق من السياسة اليومية، الميدان المعلن الذي يتبدّى فيه عجز الاقتصاد الرأسمالي عن تطويع الحياة اليومية. وليس أكثر عسراً، فالعكس هو الصحيح، أن يكون تلاؤم الاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي مع الاقتصاد الرقمي قائماً في ميدان شيخوخة الربح، بدل تجديد الشباب. ويكفي أن يتابع المرء ما يجري في أيّ من البلدان الرأسمالية الأساسية، في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، بصدد السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة؛ أو، في هذا المضمار، مفاعيل التكنو ـ إقطاع… لكي يتذكّر المرء نبوءة ماركس الرهيبة، حول بورجوازية لا تملك سوى أن تخلق حفّاري قبورها!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
تصحيحا (مفهوميا) ؛
“نبوءة ماركس الرهيبة”، لم تكن “حول بورجوازية لا تملك سوى أن تخلق حفّاري قبورها” ،
ولكن كانت “حول الرأسمالية (بأل التعريف) التي لا تملك سوى أن تخلق حفّاري قبورها” ،
والفرق بين البرجوازية والرأسمالية هو أن الأولى “أيديولوجيا” ذات وجهين تقدمي ورجعي ،
بينما الثانية ذات وجه رجعي واحد فقط، لهذا “لا تملك إلا أن تحفر قبرها بنفسها” !!!؟؟