في النص الواحد تتعدد القراءات، تبعا لمحورية الذات القارئة في كل مستتبعات العملية الإبداعية، من كتابة وقراءة، وشرح وتفسير وتأويل. وفي كل هذه النوازل والشطحات يظهر لنا النص، وهو يصطبغ بألوان مختلفة، يتمطط من خلالها سداه، ليشمل تجاربَ أخرى خارجه. ومهما حاول الدارس أن يمسك بالجوهر المتجدد، ينفلت النص من بين الأصابع، فيغدو القارئُ كالقابض على الماء.
تعدد الذوات يضارعه تعدد القراءات النصيَّة، وهو ميسم يشرعن الاختلاف، الذي ناضلت من أجله الإنسانيَّة عبر تاريخها السرمدي. فالاختلاف ليس حبيس المواقف السياسية والنضالية فحسب، وإنما يغزو الخطاب اللغوي أيضا، لذلك يسافر المعنى عبر بوابات زمنية، يخترق سجوف النصوص، بهدف التفسير وأحيانا التأويل. فبقدر ما نبحث عن التقاطعات النصية، بقدر ما نمسك بتاريخ الأفكار، التي أطرت حقبة زمنية معينة، وألقت ظلالها الوارفة على مستقبل النقد أيضا. وفي هذا الاتجاه، تكون منابعُ وشطحات الإبداع غزيرة، بما هي تتجمع كلها في المتخيل الأدبي، الذي يعتبر صمام الأمان لهذا الاختلاف.
يغدو المتخيل، في هذه الحالة، مجرد نص، ما دام يقبل بالاختلاف، وبالتالي تشرئب أعناق النقاد من الشرفات على ما سيؤول إليه مصير النص الأدبي. فاختلاف القراءات خاضعة، وبثقلها، لسنّة تطور الحياة وتعقدها، ما يسفر عن هجرة نصوص المتخيل، بما هو ذلك الحوض الدلالي، الذي تسبح فيه القراءات جميعها. فبين الفلسفة والأدب، مثلا، أواصرُ ينتقل فيها وعبرها النص الأدبي من وسط إلى وسط آخر مغاير، فيعمد الكاتب إلى تسخير طاقاته الفنية ليجعل من مكنون الخطاب السردي حمَّالا ومطية نحو مشروعه الفلسفي، فما على السرد، حينئذ، إلا أن ينساق وراء تلك الرؤية الفلسفية الشاملة، فيتلون السرد وعناصره، من شخصيات وزمان ومكان، فضلا عن رؤية العالم بألوان فلسفية قائمة على عنصر التأويل.
إن التناص في السرد يعتبر ديباجة نحو مزيد من التعالقات بين ـ نصية، فالقصص القصيرة تعود إلى مهدها، فتغترف منها ماء الحياة، لتستمر في الوجود والإمكان. فمتخيلها دائم التجدد ما دامت صيرورة الزمن غير متوقفة، وما دامت اللغة تتجدد، وتخلق لنفسها استعارات تحيا بها، فالخيوط التي يلعب بها الراوي لا تزيغ عن بنية العناصر المكونة للخطاب السردي، فعندما تضيق الرؤية السردية في العمل الإبداعي، فالأمر ما هو إلا انعكاس طبيعي بين المتخيل وتأويلاته، لينتشر هذا الضيق ويوسع من دائرته، ليشمل الفضاء والمكان والشخصيات، بما تظهر عليها من سلوكات تنم عن التوتر والنرفزة.
لا حديث إذن، إلا عن التناص الموجود بين النص الأول أو القديم، والإبداع باعتباره رجعا للصدى، فهل يمكن أن نقول إن النص الحديث ما هو إلا نسخة متحورة لنصوص سابقة؟ أم هي عبارة عن لعبة الاستعارات الكبرى، التي يتدثر بها «الأدب وفنونه» حسب محمد مندور.
من خلال هذا الطرح، لا بد من أن نُعرّج على التداخل الموجود بين النصوص، وما تنطوي عليه من أنساق فلسفية وتاريخية وأيديولوجية أيضا، فهذا التشاكل الموجود بين النص القديم والحديث، أو بين القصة المؤطرة والمؤطرة، يتجدد دائما بفعل المنطق الداخلي للغة. وفي الاتجاه نفسه، فتزيفتان تودروف المفكر الفرنسي من الأصول البلغارية، لم يكتف فقط، بالنظر إلى أوجه الائتلاف والاختلاف في هذه الهجرة الجماعية للنصوص، وإنما وسع من خلال الممارسة اليومية في حياتنا الاعتيادية، من تلقي هذه الظاهرة الأدبية، على خلفية التباين المرجعي لكل فرد في المجتمع. وهذا ما يحدث عندما يلتقي صديقان حول طاولة مقهى مثلا، فإن تودروف، في كتابه الأدب في خطر، يعتبر هذا الأمر من مزايا التداخل الفكري، الذي جمع بين الصديقين. وبناء عليه، فالتشاكل النصي يجري مجرى الحوار والتذكر، بل حتى على مستوى العلاقة، التي تربط بين الفكر واللغة، لأن الانسجام بينهما أصبح ضروريا، لاكتمال صرح التواصل.
من المفيد جدا، أن يكون التناص ممارسة يومية، لا أن يظل حبيس قصوره العاجية في كتب التنظير القديمة، فضلا عن تحنيطه في غبار الكتب والأسفار، فبقدر ما تتجرأ عناصر السرد على أن تلج عوالم اليومي، بقدر ما تنقشع الرؤية، وتصبح عناصر السرد أليفة، وسهلا استثمارها إبداعيا. وهذا الأمر أشار إليه الكاتب عبد المجيد بن جلون، وإن كان ذلك بصيغة أخرى، في كتابه «مارس استقلالك». فالاستقلال ليس تنظيرا، ولا ثقافة، ولا تداولا، وإنما ممارسة يومية، وسلوك نمارسه في البيت، والشارع، ومع الأصدقاء في الأماكن الخاصة والعامة.
كاتب مغربي