التنظيم الجهادي الأكثر علمانية؟

قضى مبين أزهر الصحافي الاستقصائي البريطاني من أصل آسيوي، سنوات يحاول الإجابة على سؤال يخصّه كشخص ولد في عائلة مسلمة، وهو: ما الذي يحوّل شخصا عاديا إلى متطرّف عنيف؟
يلاحظ أزهر، الحائز جائزة بافتا عن الوثائقي «مسلمون مثلنا» اكتشف في سلسلته الوثائقية «الهاتف الذكي لعنصر في الدولة الإسلامية» كنزا من الصور والفيديوهات والمعلومات الشخصية لبعض من أعضاء تنظيم «الدولة» زوّده بها الصحافيان أسامة محمد، ولويس كالاهان. قدّر من غادروا بريطانيا إلى العراق وسوريا بأكثر من 900 بريطاني خلال ست سنوات، ما جعل أزهر لا ينفكّ يبحث عن إجابات على الأسئلة المؤرقة بالنسبة له، ولكثير من أهالي أولئك الذين فقدوهم، حيث: لماذا ترك أولئك عائلاتهم ليقاتلوا في حرب «تبعد عنهم آلاف الأميال» فهل يمكن أن تقدم هواتفهم الشخصية، التي وصلت إليه عبر صحافيين ميدانيين في سوريا، إجابات مقنعة لتلك الأسئلة؟
لمبين المولود في يوركشير لأب عمل سائق باص وصاحب محل بقالة، تاريخ من الصحافة الاستقصائية والأفلام الوثائقية، وقد حصل على جائزة بافتا عام 2017 عن الوثائقي «مسلمون مثلنا» وعلى جائزة المؤسسة الملكية للتلفزيون على إنتاجه الوثائقي «مسقط رأسي: قتل» عام 2019، وله أيضا «حرب المسيرات السرية» الذي غطّى حرب المسيّرات (الدرون) على الحدود الباكستانية الأفغانية عام 2012، والذي تابع عمل فريق شرطة باكستاني يتابع حركة طالبان، التي أطلق عناصرها عليه النار خلال تصوير العمل المذكور عام 2016.

الشخص الذي توقف عن الابتسام

يحفر مبين في صخر السؤال الممض، معتمدا على ما قدّمته ثلاثة هواتف ذكية لثلاثة من أولئك الذين غادروا بريطانيا وقتلوا في سوريا، والتواصل مع أقاربهم وأصدقائهم وأشخاص على علاقة بهم. غادر أولهم، فاتلوم شالاكو، بعمر 18 عاما، وكان يحب ممارسة التمارين الرياضية في قاعة للتدريب، كما يحب استخدام الكاميرا، ووصل إلى سوريا عام 2013، أي قبل إعلان التنظيم لدولته.
تظهر الفيديوهات التي التقطها فاتلوم وهو يتدرب على مسدس وبندقية آلية كلاشنيكوف فيما يخاطبه من يصوّره، كما يخاطبون الأطفال قبل إطفاء شمعات كعكة عيد الميلاد: Say cheese to the camera فيما يرفع الشاب الصغير علامة النصر، ويعلق مبين أن هذا يشبه كثيرا فيلم «الأسود الأربعة» وهو فيلم بريطاني أنتج عام 2010، وهو عمل ساخر لحبكة غريبة عن 4 شبان بريطانيين يحاولون الالتحاق بمعسكر لـ»القاعدة» في باكستان.
يضع لقاء مع أحد أصدقاء فاتلوم، اليد على عناصر اجتماعية للقرار، فبعض سكان المنطقة الفقيرة التي عاش فيها يسمونها جهنم، والمدرسة كانت موقعا عليه أن يقاتل فيه المتنمرين. ذهب الشاب إلى سوريا لتقديم مساعدة إنسانيّة، لكن الواضح أنه كان ذاهبا بسبب غضب داخليّ تنامى بعد ردود الفعل الغربية، إثر أحداث 2001، وما تبعه من احتلال أفغانستان. لقد انتقل فاتلوم، حسب هذا التحليل، من غضب محلّي أسبابه الفقر والتهميش وردود الفعل العنصرية، للبحث عن قضية مظلومية عامة، ليقع في النهاية، في شباك تنظيم «الدولة». بدا الأمر، بالنسبة لأمثال فاتلوم، أن جنودا من البلاد التي ولدوا فيها، يذهبون لقصف البلاد التي ولد فيها آباؤهم. أدى هذا إلى جو غضب بين المسلمين البريطانيين، وحين ذهبوا إلى بلاد فيها عنف تحولوا إلى أشخاص عنيفين.
الشخص الثاني موضوع الوثائقي هو شكري الخليفي، ويصفه أزهر بأنه «الشخص الذي توقف عن الابتسام». لقد ذهب إلى سوريا عام 2012 مع الموجة الأولى من البريطانيين، الذين أرادوا المشاركة في المساعدة الإنسانية، أو في قتال النظام السوري. يظهر أحد الفيديوهات شكري وهو يلعب مع دجاجة، جاء الخليفي أيضا من منطقة غرب لندن، خسرت 26 شابا في سوريا.

عندما قام التنظيم مثلا بتنظيم عملية إعدام قائد الطائرة الأردني، فقد اشتغلوا على إظهار الجريمة كأنها لعبة فيديو، أو فيلم رعب هوليوودي، وقد تمت عملية الإعدام باستخدام تأثيرات سلسلة أفلام الرعب الشهيرة: «المنشار» SAW.

لماذا جاء عناصر التنظيم من عائلات غير متدينة؟

الملاحظة اللافتة التي يثبتها الفيلم هي، أن أولئك الشبان لم يكونوا من عائلات متدينة، وأنهم لم يكونوا من رواد المساجد. التأثيرات التي ساهمت في شخصياتهم وقراراتهم كانت وسائط الميديا والتواصل الاجتماعي الحديثة، وأحد العناصر المهمّة أيضا، في هذا السياق، أن تنظيم «الدولة الإسلامية» برع في استخدام تلك الوسائل لجذب أولئك الشبان.
في تلك المرحلة التي سبقت سفرهم انعزل أغلب أولئك الشبان وأصبحوا متحفظين في الكلام. مهم أيضا ملاحظة أنهم ابتعدوا عن الأنشطة التي فيها فتيات أو جو مختلط بين الجنسين، وحسب أزهر، فإن أولئك الشبان كانوا يحاولون تقليد شيء لم يكن موجودا بهذه الصورة حتى في المجتمعات الإسلامية!
تتعارض هذه الملاحظة مع البحوث التي ركزت على الدين، فلا واحد من هؤلاء، حسب الفيلم، كان متدينا. أسباب ما فعلوه شخصية. دخل شكري مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة وكان، حسب مقابلة مع أخيه، ضعيفا وغير قادر على حماية نفسه، واتجه بعد ذلك للقيام بسرقات صغيرة، وهرباً من محاكمته ودخوله السجن ذهب إلى سوريا حيث انضم لـ»الدولة».
الشاب الثالث الذي يعرض الفيلم قصته، هو مهدي حسان، وهو يختلف عن زميليه بأنه جاء من عائلة من الطبقة المتوسطة، ودرس في مدرسة كاثوليكية خاصة، ويبدو أنه اكتشف، قبل غيره، عدم تطابق التسويق مع البراند، وقرر الرجوع لبريطانيا، وقد طرح هذا الموضوع على أهله وأصدقائه، ومن المؤسف أنه قُتل، على الحدود التركية، وهو يحاول العودة.
خافيير، أحد الباحثين الإسبانيين في موضوع الحركات الجهادية، استنتج، بعد تحليل 1500 شريط فيديو أنتجه تنظيم «الدولة» أن مجمل ما أنتجه التنظيم هو مواد إعلامية لا علاقة لها بالإسلام على الإطلاق، فكثير من هذه المواد تتحدث عن الفقر والتغير المناخي، وأن التديّن هو أمر ظاهري في تلك المواد.

العلامة التجارية لتنظيم إرهابي!

ترسانة التنظيم الإعلامية إذن تتوجه إلى الجيل الجديد المتأثر بثقافة الفيديو وأفلام الرعب.. يستخدم تنظيم «الدولة» مواد يستلهمها الجميع ومنها، على سبيل المثال، لعبة الفيديو الشهيرة Mortal Combat وبهذه المواد كان المسؤولون عن دعاية التنظيم يحاولون تحويل منظمة إرهابية إلى شيء مسل ومحبّب وعصري وحديث.
عندما قام التنظيم مثلا بتنظيم عملية إعدام قائد الطائرة الأردني، فقد اشتغلوا على إظهار الجريمة كأنها لعبة فيديو، أو فيلم رعب هوليوودي، وقد تمت عملية الإعدام باستخدام تأثيرات سلسلة أفلام الرعب الشهيرة: «المنشار» SAW.
بدأ التنظيم حملة إعلامية على تويتر قبل 24 ساعة من عملية الإعدام، مستخدما ملصق الساعة نفسه الذي استخدم في فيلم الرعب الشهير، وقد استخدم خلال الإعدام المؤثرات الرقمية نفسها، بقصد نزع العنصر البشري للقتل، والمطلوب عند مشاهدة الإعدام، إخراج المشاهد من الواقع تماما، وهي ظاهرة تصل إلى قطاع واسع جدا. استخدام ثقافة «البوب» الغربية في دعاية التنظيم، سببها أن العالم الإسلامي يعيش حالة من العلمنة، وحتى أكثر الشخصيات راديكالية التي تذهب للتنظيم، لم يأتوا إليه متأثرين بالدين، ويطرح خافيير أطروحة مثيرة وجديرة بالنقاش وهي أن تنظيم «الدولة» هو المنظمة الجهادية الأكثر علمنة على الإطلاق.
مجمل فيديوهات التنظيم هي عن الانتقام والشعور بالمظلومية، وإذا اردنا أن نعرف سبب سفر الآلاف من الشبان الأوروبيين للعمل تحت راية التنظيم، فعلينا أن نفهم تلك اللغة الجديدة. لقد استخدم «الدولة» ألعاب الفيديو والأفلام لإعطاء «علامة تجارية» (براند) لنفسه، وحين تراقب حركات فالتوم وشكري في الفيديوهات التي التقطوها لأنفسهم، فسترى أشخاصا يمثلون أدوارا ويعيشون في فيلم إثارة، وفي ذلك، استخدم التنظيم، ببساطة، أساليب التسويق العالمية.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لقد نجحت داعش إعلامياً بغسل أدمغة الشباب بأوروبا بأساليب عديدة منها زواج القاصرات!
    هذا ما ذكره لي إمام مسجد بالنرويج يعمل بالمناصحة مع المغرر بهم في السجون!! ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية