في ظرف شهور قليلة، بدأت العربية السعودية ترسم لنفسها وضعا جيوسياسيا مختلفا، يهدف إلى إقامة حزام آمان واستقرار لتفادي الانعكاسات التي قد تحملها التطورات السياسية المقبلة، لاسيما في ظل الصراع بين روسيا والصين في مواجهة الغرب. وكانت العربية السعودية تقيم في «منطقة جامدة» منذ عقود، بسبب ارتهانها الكبير إلى الغرب بشكل كبير ولاسيما الولايات المتحدة. غير أن سنة 2023، تشهد منعطفا حقيقيا في توجهات هذا البلد المركزي في العالم الإسلامي، مستفيدا بشكل مخالف مقارنة مع الماضي من احتضانه مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكذلك بسبب ثقل هذا البلد في الطاقة الدولية، نظرا لاحتلاله المراكز الثلاثة الأولى عالميا في إنتاج وبيع النفط. ويمكن استعراض أربع محطات رئيسية تبرز هذا التطور الكبير الحاصل في إصرار السعودية على التغيير من ثوب جيوسياسي إلى آخر وهي:
*في المقام الأول، تعتبر سنة 2023 نهاية الحرب اليمنية – الخليجية، بعدما جرى إنهاء العمليات العسكرية بشكل نهائي، وبدء حوار بين الرياض والحوثيين، من أجل التوقيع على سلام حقيقي. وترغب السعودية من وراء هذا العمل تجميد أو بالأحرى إنهاء مصدر خطر حقيقي يقع على حدودها الجنوبية، خاصة بعدما اشتدت قوة الحوثيين بفضل الدعم العسكري الإيراني الحاسم. وتبرز مختلف تقارير الاستخبارات الدولية، وكذلك مراكز التفكير الاستراتيجي أن الحدود الجنوبية هي الأخطر بالنسبة للسعودية في الوقت الراهن.
كانت السعودية تقيم في «منطقة جامدة» منذ عقود، بسبب ارتهانها الكبير إلى الغرب. غير أن سنة 2023، تشهد منعطفا حقيقيا في توجهات هذا البلد المركزي في العالم الإسلامي
في المقام الثاني، توقيع الرياض اتفاقية حوار وسلام وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران خلال أبريل/نيسان الماضي. وهي أهم اتفاقية سلام بالنسبة لأمن واستقرار السعودية منذ عقود، وذلك بحكم أن كل الدراسات تشير إلى خطر إيران على السعودية، في ظل صراع على منطقة الشرق الأوسط، خسرته الرياض، إذ أن جل مشاكل السعودية، سواء من الجنوب أو الشرق تأتي من إيران. ثم خطر التقدم العسكري الإيراني المذهل خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسه صواريخ فرط صوتية قادرة على استهداف كل الأهداف الاستراتيجية في السعودية، أو مناطق أخرى في الشرق الأوسط. وأدركت السعودية أن الغرب لن يقف معها في حرب مع طهران، لاسيما وأن هذا الغرب امتنع عن بيعها أسلحة متطورة. فمن جهة، قامت واشنطن بتجميد معظم الصفقات الموقعة بين الرياض والولايات المتحدة في عهد الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، ومن جهة أخرى، تستمر دول الاتحاد الأوروبي في فرض فيتو على مبيعات الأسلحة، بسبب حرب اليمن، وها هي المانيا تمنع السعودية من إتمام صفقة مقاتلات يوروفايتر.
*في المقام الثالث، انضمام السعودية خلال شهر أغسطس/آب الماضي إلى منظمة البريكس. وبهذا، تكون قد انضمت الى منظمة تتزعمها الصين، التي أصبحت زبونا رئيسيا للنفط السعودي، وكذلك الانضمام إلى منظمة تحرك المشهد السياسي الدولي نحو عالم متعدد الأقطاب، سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وأخيرا الحصول على دعم من البريكس في حالة ارتفاع الضغط السياسي للغرب على السعودية، مثلما حدث في ملف اغتيال جمال خاشقجي.
*في المقام الرابع، دراسة الرياض فرضية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وذلك بشهادة ولي العهد السعودي نفسه محمد بن سلمان لقناة «فوكس نيوز» الأمريكية خلال الشهر الجاري بقوله «كل يوم نقترب أكثر من التطبيع مع إسرائيل»، غير أنه شدد على القضية الفلسطينية وجعلها محورية في أي اتفاقية سلام تعيد «إسرائيل كعنصر في الشرق الأوسط»، وفق تعبيره. ولعل الجديد هو اشتراط التطبيع كذلك بالحصول على الحق في إنتاج الطاقة النووية السلمية. ورغم أن توقيع السلام مع إسرائيل لا يعتبر بالأمر الحيوي لأمن السعودية، بحكم أن إسرائيل لا تشكل عليها تهديدا مباشرا، إلا أنه سيجعل الرياض مخاطبا أكبر وأكثر في قضايا المنطقة، سواء مع دول المنطقة أو القوى الكبرى.
ويضاف إلى هذه العوامل الأربعة، رغبة السعودية في الانتقال إلى إنتاج الأسلحة، على غرار إيران وتركيا في المنطقة، وهو مشروع طموح، لكنه يحتاج إلى الكثير من الوقت بحكم الانخراط المتأخر للرياض في هذا المسلسل، عكس الدولتين المشار إليهما. وما زالت السعودية تبحث عن شريك يقبل بشروطها ومنها، تفويت التكنولوجيا الخاصة بصناعة الأسلحة. في الوقت ذاته، تقوم السعودية بتغييرات جوهرية في نمط التفكير والقيم وسط المجتمع السعودي للتكيف مع هذه التطورات، وهو توجه يلقى الدعم من تيارات والرفض من أخرى. وترمي السعودية من خلال هذه الاتفاقيات والتوجهات، إلى إعادة رسم وجودها في الخريطة الجيوسياسية الآخذة في التشكل في العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن اعتبار هذه الاتفاقيات بمثابة سعي إلى تحقيق «حزام السلامة» بتعزيز الحوار مع مختلف القوى الإقليمية في الشرق الأوسط والحركات القوية مثل الحوثيين. وترغب في هذا الاستقرار خدمة لمشروعها الاقتصادي المتبلورة في رؤية 2030 وما بعدها. وهذا السيناريو الذي تتبعه العربية السعودية ليس جديدا على المنطقة، قد شرعت فيه الإمارات منذ سنوات من خلال التطبيع والانفتاح على روسيا والصين كحلفاء سياسيين، بدل الاعتماد على الغرب فقط. لكن هذه المشاريع تبقى غامضة نسبيا في ظل عدم حسم الرياض في التوجهات المستقبلية بشكل واضح. في هذا الصدد، لا يمكنها مثلا بحث التوقيع على اتفاقية تعاون دفاعي عسكري مع الولايات المتحدة، كما أعلن الرئيس جو بايدن، في وقت تتوجه الى أن تصبح فيه عضوا نشيطا في البريكس، هذا الأخير الذي يريد الحد من هيمنة الغرب.
كاتب مغربي