تعيد الأزمة التونسية المحتدمة حالياً مفهومي الثورة والثورة المضادة إلى الساحة بعد أن استُهلكا حتى الشفافية على أيدينا، وعلى تفاسير متعارضة، يتغيّر فيها الموضوع مع تغيّر الذات. فهل كانت حركة السيسي والجيش في مصر استمراراً للثورة أم فعلاً مضاداً لها؟! وهل كانت سيطرة الرايات السوداء والبيضاء في سوريا استمرارا لثورتها أيضاً أم نقضاً لها؟! وهل كان ما جرى في تونس» انقلاباً» وفعلاً من أفعال الثورة المضادة أم أنه تصحيح لمسار الثورة الذي تعقّد واستنقع؟! والأهم في كلّ ذلك: هل كان الإسلامويون ثورةً وجزأً من ثورة، أم ثورةً مضادة تتلطّى للثورة وراء الزاوية؟!
ينبغي الإقرار أولاً بأن تونس تختلف بالفعل عن غيرها، قبل ربيع 2011 وفيه وبعده. وهي، رغم كلّ الظواهر المكرّرة في أكثر من مكان عربي خفيفة الظلّ في مشاكلها وقضاياها. «إخوانها « أكثر معاصرةً من غيرهم، وانقلابها الطارئ أقلّ فظاظة من غيره.
دشّن الفرنسيون استخدام المصطلح بعد ثورتهم عام 1789، من خلال أنصار عودة الملكية، الذين استطاعوا أن يحققوا انتصاراً مهماً على ثورات 1848 الأوروبية. في حين لم يقف بسمارك عند توحيد ألمانيا وتنشيط نهضتها الاجتماعية والاقتصادية، بل أخذ عن الاشتراكيين مطلبهم، وأسس لضمان صحي ما زالت آثاره قائمة في دولة الرعاية الراهنة. وبعد عدة انقلابات أو ثورات بعد الحرب الأولى، جاء انقلاب هتلر، ومعه قسم غاضب من الشعب الألماني آنذاك، ليحقّق خراباً ما زال يفعل فعله حتى الآن. وفي روسيا كان اسم «الثورة المضادة» اسم علم لكلّ القوى التي حاربت ثورة أكتوبر عسكرياً، ثمّ استمرت كأداة لقمع من رأى ستالين ضرورة لقمعه.
اعترضت حنة آرندت على إطلاق اسم الثورة جزافاً. فتقول في بعض خربشاتها عام 1963 بمناسبة حراك الحقوق المدنية الكبير في الولايات المتحدة إنها لا تقبل» الثورة الفاشية أو المراحل اللاحقة من الثورة البلشفية على أنها ثورات ليس فقط لأن عنصر الحرية كان مفقوداً فيهما تمامًا، لكن أيضًا لأن فكرة تأسيس شيء جديد ومستقر قد اختفت وراء فكرة أخرى هي الثورة الدائمة… ادّعى لينين أن الهدف هو: كهربة البلاد (القضاء على الفقر والتخلف) بالإضافة إلى السوفيتات (شكل جديد من أشكال الحكومة). لكن الثورة لم تنته ولم تصل إلى نهاية. لقد تم إعلانها ثورة دائمة ولاهثة، هي إما تناقض في المصطلحات أو مجرد فكر شمولي».
في صيف عام 2013، كنت في حديث مع سفير مصر لدى إحدى الدول الأوروبية، وحين جاء ذكر ما جرى في الثلاثين من حزيران/يونيو وبعده قلت كلمة «انقلاب» فابتسم وصحّح لي «نحن نسمّيه ثورة». وإخوان مصر وكثير غيرهم – وبينهم علمانيون- ما زالوا يطلقون على الذي حدث اسم» الثورة المضادة».
في سوريا يُطلق اسم «المناطق المحررة» على تلك التي تسيطر فيها قوى معارضة مسلّحة يغلب عليها الطابع الإسلامي والداعم التركي، بل إن أقواها وأكبرها «جهادي» يقع مباشرة تحت تصنيف الإرهاب في القوائم الدولية. ويتحرّج غيرهم من تلك التسمية الفائضة، من دون أن يبادر إلى تسمية مختلفة. ويرى الإسلاميون- وآخرون- فيما يجري على الأرض استمراراً للثورة، في حين يراه غيرهم ثورة مضادة.
في الثغرات هنالك غياب المحكمة الدستورية وتعطيل اختيار أعضائها عجزاً أو عمداً ويتسبب هذا حالياً في التخبّط أمام الإجراءات والتوجّهات
كلّ ذلك ينعكس هذه الأيام على الحدث التونسي في خلفيات ردود الفعل وطريقة الرؤية والنظر.
كغيرهم، بدا التونسيون وقد سئموا سياقات ثورتهم بضجيج إسلامييها وفاسديها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية. فجاءت النتائج متعارضة ومختلطة: فشلت النهضة في تمرير مرشّحها إلى الدور الثاني، ونجحت في تصدّر الكتل البرلمانية. واكتسح قيس سعيّد الصناديق بحمولته الشعبوية وضعف خبرته مع نواياه الطيبة، لكن أيضاَ مع توجّه حركة النهضة إلى دعمه بكلّ قواها بعد فشل ممثلها. نجح سعيّد بأكثر من سبعين في المئة من الأصوات، ونالت النهضة أقل من عشرين في المئة في انتخابات البرلمان، مما جعل الرئيس فائزاً حتى لو حسمنا من أصواته أصوات النهضة، مما جعله مستغنياً وقادراً على «الاستقلال» بنفسه شيئاً فشيئاً. ذلك ينسجم مع المخيال التونسي- العربي- حول صلاحيات الرئيس «القائد» ويفسّر ميل سعيّد وحلمه بتعديل الدستور لإعادة النظام رئاسياً كما كان.
على هذا الخطّ ذاته جاءت إجراءات الرئيس وبيانه في يوم 25 تموز/ يوليو… والرجل حقوقي وقانوني من الطراز الأول، كما كان نشيطاً في حوارات ومناقشات الدستور الحالي عام 2014 مع أن هنالك تعارضاً واضحاً من أول نظرة متواضعة – غير مختصة – للمادة 80 التي استند إليها الرئيس مع إجراءاته التي أعلنها ونفّذها، على الأقل من حيث تجميده للبرلمان وإغلاق أبوابه مع النصّ على جعل اجتماعه مفتوحاً في المادة المذكورة. ربّما كان الملك عارياً، ونحن لا نرى ذلك! ربّما أيضاً لا نريد أن نرى الأمر، لأنه ليس جوهر المشهد والمسألة والأزمة، بل شكلها الخارجي، الذي حدّدته ثغرات البناء وسياقات إعادة تأسيس النظام والدولة واستقرارهما، وكذلك مسار الأزمة الاجتماعية – الاقتصادية – الصحية المستحكمة بالناس.
في الثغرات هنالك غياب المحكمة الدستورية وتعطيل اختيار أعضائها عجزاً أو عمداً، ويتسبب هذا حالياً في التخبّط أمام الإجراءات والتوجّهات. وفي السياقات يبدو أن هنالك حالة فساد وصلت إلى حدّ التفسّخ، بانعكاساتها على الحياة السياسية وتشويهاتها لكلّ مجالات الحياة الأخرى، مع تدهور في الإدارة وصل إلى شفا الكارثة مع جائحة كورونا واستفحال أمرها.
بيضة القبان في الأزمة هي حركة النهضة، بوضعها الداخلي على شفا الانقسام والتشرذم، وبعلاقتها مع القوى الأخرى حتى استخدام الضرب المباشر في داخل البرلمان، من دون أيّ استنكار لذلك أو حتى اعتذار فيما بعد. وإذ يشكّل الشيخ الغنوشي – زعيم النهضة ورئيس البرلمان- وزناً كبيراً في الصورة بثباتها أو حركتها، فإن الشكل الشخصي لخلافاته في كل الاتجاهات، وآخرها مع الرئيس، قد أساء إلى تاريخه الطويل، كأكثر زعيم إسلامي اعتدالاً وحداثة في طرائق معالجته لقضايا الاجتماع والسياسة، بالمقارنة خصوصاً مع الإخوانيين في أماكن أخرى.
لم يستطع الغنوشي – وحركة النهضة – الاعتصام بوطنيته التونسية التي طالما تحدّث عنها، وانتقد على أساسها رفاقه من الإخوان المصريين إلى السوريين وغيرهم. حدث ذلك خصوصاً على إثر ما جرى في مصر، التي كانت طموحات الإخوان فيها وإصرارهم على تفرّدهم وامتناعهم عن مراعاة الآخرين سبباً في مأساتهم وفي تدهور الثورة المصرية ومكتسباتها الديموقراطية.
فكما كان الأمر في مصر، حين أدّت مطامع الإخوانيين وعدم مقاومتهم لها إلى تطوّر موقف الجيش ومبادرته ومن ثم تغيير المسار الديمقراطي فإن المسؤول عمّا جرى في تونس هو قوّتها السياسية الأكبر، التي عجزت عن التعامل مع القوى الأخرى على القواعد الحديثة المعروفة، بل أدّت سياساتها إلى تعطيل جوانب ضرورية تتوزع على مروحة شاملة من مكافحة الفساد إلى ترتيب تداول السلطة إلى استكمال العدّة القانونية للنظام.
يختلف الأمر ما بين تونس ومصر، في أن هنالك رئيساً شرعياً بالأساس، يؤكد على أن الإجراءات مؤقتة، وعلى حرية التعبير، ويعترف بالدستور ويستند إليه، وإلى قاعدة شعبية لا ينكرها حتى خصومه، تعيش ظروفاً صعبة تحفزها على تمرير ما لا يمرّ في أوضاع أخرى.
يختلف أيضاً في وجود برلمان منتخب لا يستطيع أحد المساس به وبدوره، لحركة النهضة دور أول فيه، وينبغي لها أن تقتنص الفرصة السانحة لإجراء مراجعة نقدية وذاتية معمّقة. بذلك يمكن للأمر أن يختلف في الأيام المقبلة، وينفتح باب الحوار والبحث عن حلول عملية ودستورية في الوقت نفسه، فتونس عزيزة، وأهلها يستحقون الخير.
أمّا ما يخصّ الثورة والثورة المضادة، فربّما نضطر إلى العودة إلى ما نكره، لنستحضر الأرواح ومفاهيم التقدم والرجعية، ونكفّ عنّا شرّ اختلاط المصطلحات.
كاتب سوري
و أخيرا مقال موضوعي في الشأن التونسي …..تصحيح فقط يا أستاذ ….البرلمان ليس بالشرعية اللتي يظن البعض …..تقرير دائرة المحاسبات الأخير الصادر في جانفي 2021 يسقط الشرعية عن كثير من النواب ….
/في الثغرات هنالك غياب المحكمة الدستورية وتعطيل اختيار أعضائها عجزاً أو عمداً، ويتسبب هذا حالياً في التخبّط أمام الإجراءات والتوجّهات. وفي السياقات يبدو أن هنالك حالة فساد وصلت إلى حدّ التفسّخ، بانعكاساتها على الحياة السياسية [والاقتصادية والصحية]/… اهـ
هذا هو بيت القصيد فيما له مساس بالمشهد السياسي الراهن في تونس، والمقال يبدي تفهما متميزا عن سواه من العديد من المقالات التي ظهرت حتى الآن في هذا المنبر.. وإلى جانب غياب المحكمة الدستورية، أضيف أيضا غياب تمثيل المرأة الملحوظ، مما أفسح ويفسح المجال لمختلف أشكال “المبادرات” الذكورية غير المرغوب فيها على أكثر من صعيد.. أختلف قليلا مع الأخ موفق نيربية في اعتبار النهضة “بيضة القبان” في هذا التأزُّم: النهضة تحتاج إلى التوازن الداخلي قبل سعيها إلى “البت” في التوازن الخارجي، وتمثلات حركة الإخوان في البلدان العربية لا تختلف عن الطوائف الإسلامية
أحيي الأخت آصال أبسال على ملاحظاتها الثاقبة كما عهدنا كتاباتها النقدية في العديد من المجالات ولو أن هناك بعض الشيء مقتطع من قبل المحررين ،،، نعم النهضة تحتاج إلى التوازن الداخلي قبل كل شيء ،،، وعلينا أن نوضح على الملأ شاء من شاء وأبى من أبى بأن تنظيمات الإخوان لم تظهر على السطح السياسي بهذا الزخم فعليا إلا مع اندلاع ثورات الربيع العربي ،،
صدقتِ أخت آصال أبسال ، صدقتَ أخ بلقاسم الليثي ،
هذه ثورات شعبية من أجل التخلص من نير الاستبداد بكل أشكاله ، ومن أجل التصدي لكل أنواع التدخل الخارجي أيا كان ، ومن أجل بناء المجتمع المدني الديمقراطي العلماني في عالمنا العربي بأكمله في نهاية المطاف ، هذه ليست “ثورات” إسلامية ولا متأسلمة بأي شكل من الأشكال !!!!؟
شكرًا جزيلا لكل من بلقاسم وشاهيناز.. فقط أود هنا أن أوضح المسألة بعض الشيء لتجنب أي نوع من سوء الفهم في هذا السياق.. ملاحظاتي النقدية عن مواقف النهضة لا يُقصد منها، بأية صيغة من الصيغ، الوقوف إلى جانب أوتوقراطية اتخاذ القرارات من طرف سعيّد حتى لو كان “مصيبا” في موقفه النقدي من الغنوشي كذلك.. !!
حياك الله أختنا الدكتورة آصال أبسال على توضيحك المفيد في القسم الثاني من ملاحظاتك الهامة ؛
كنت في الحقيقة أريد أن أبدي رأيي عن نفس التحسب واحتمال سوء الفهم إلا أنك سبقتني في ذلك فكفيت وأوفيت ، كل الود والاحترام
شكرًا أخي موفق نيربية. نقطان لم أستطع الحصول على إجابة لهما في كل المقالات التي تناورلت التطور الأخير في تونس. الأولى لاشك كل القوى السياسية لم تكن على مستوى المسؤولية في هذه المرحلة الحرجة لكن لماذا تتحمل النهضة مسؤولية أكبر من غيرها، لم أرى ذلك بصراحة رغم أني أخر من يدافع عن النهضة والأخوان المسلمين عمومًا. لكن أريد توصيف موضوعي وليس يتناول هذه النقطة بعمومية. والنقطة الثانية وماذا بعد معظم المقالات تناولت إجراءات قيس سعيد بموضوعية وتناولت شخصيته كرئيس ومؤهلاته وعدم خبرته بموضوعية أيضًا. لكن لم يستطع أحد أن يقدم تحليلًا لهذه الضبابية التي ترافق خطته هذا إذا كان يملك، أو بكلام آخر إلى أين يقود قيس سعيد تونس ويقودنا! هل من أحد يستطيع تقييم الأيام القادمة والحرجة بكل تأكيد.
تحيات وسلامات للجميع : الحق يجب أن يقال في هذه الزاوية اللافتة
مقال الأخ موفق نيربية من أفضل المقالات التي كتبت عن الوضع السياسي الحالي في تونس
وملاحظات الآخت آصال أبسال من أفضل الملاحظات اللمّاحة في هذا المضمار خاصة وأنها تضرب على الأوتار الحساسة كما هو المعهود منها على الدوام