خالد الخضري، كاتب متعدد ينهل من موسوعية ثقافية متنوعة، كونها تستمد كينونتها من العمق المغربي على مستوى طبيعة المواد المشتغل بها من جهة، ومن العمق المنهجيّ على مستوى المقاربات التحليلية الرصينة التي يتسلح بها، كونها تراهن بصدق، على توثيق الذاكرة والهوية في بعديهما المحلي والوطني، بدون تمييز بين ثقافة رسمية وثقافة شعبية، انبثاقا من وعي مسبق بأهمية كلا النموذجين في تأثيث أرشيفات الذاكرة، وتثبيت الخصوصية.
توثيق الهارب والمنفلت
يتضمن كتاب «الجديدة بين الأمس واليوم» خلاصة عمل متواصل على مدى ربع قرن أو ما يزيد، وحفريات تطول مجالات شتى، من فنون، وآداب، وثقافة شعبية، وسينما، ومسرح، وتراث حرفي، الغرض منها توثيق ما لا يوثقه التاريخ الرسمي من علامات فارقة، يراها الكاتب مهمة جدا، ومفصلية في تشكيل الذات الفردية والجماعية، وحماية الهوية الثقافية المحلية، إذ يعد منجزا نادرا يلتفت، بشكل أساس، إلى العناصر المهملة في ممارستنا الجمعية اليومية، التي لا يمكن التعبير عن الهوية والخصوصية في غنى عنها.
يوثق الخضري للحظات المنفلتة من ذاكرتنا الثقافية في بعديها المحلي والوطني، لكن دونما تفريط في خاصية التحليل، والتفكيك، وإعادة التركيب، التي يتّسم بها أسلوبه في تناول الموضوعات والظواهر، ما يجعل الكتاب هدية للفرد، والجماعة، والمؤسّسة معا، إذ إنه، بفضل أسلوبه السّلس، ولغته الشّفافة، يشكّل مرجعا للفرد مهما كان مستواه المعرفي. وبالنظر للمعطيات التي يزخر بها المؤلف، فهو يجسد مرجعا ثريا للباحثين في مجال الثقافة المنسية والتراث المحلي. باعتبار دقّة التوصيف على مستوى المواد والظواهر المنتقاة للدّراسة، يمثل موسوعة مهمة للمؤسسة الثقافية، في حالة ما إذا أرادت تثبيت معلوماتها حول المجال، وتحيين أرشيفاتها وبياناتها حول المكون الرمزيّ للمحيط، الذي تشرف عليه، ويدخل في نطاقها.
فالكتاب لمّ شتات أعلام بارزين في المنطقة (دكّالة)، وظواهر استثنائية على مستوى الفنّ، والإبداع، والصنعة، والمهارات اليدوية والحرفية، والفلكلور الشعبي، وفنون الأداء، والتشكيل، والكتابة الأدبية، والممارسات الشفهية، ينوب عن المؤسسات، ويعمل عمل الفرق البحثيّة، والمواقع الجامعية التي، للأسف الشديد، نفضت يديها من القيام بمهامها الإشعاعية والبحثية التي تنشغل بالمحيط الذي توجد فيه، وانصرفت للمسائل والقضايا النظرية المستعادة، وترديد المسكوكات، هادرة بذلك، الجهد، والمال، والطاقات البشرية في ما لا يفيد البلاد والعباد، والنتيجة هو أنّ آلاف الخريجين معطوبون لا قدرة لهم على مباشرة البحث، وتقديم الإضافة المرجوّة في مجال تخصصاتهم.
المنظور الأركيولوجي
يجسد هذا العمل الموسوعي خبرة المؤلف في مجال الحفريات، ذاك أنه يسعى لجمع مادة تكاد تندثر، بدون أن تنتبه إليها المؤسسات المعنية بداعي الغيرة والانتماء والهوية، وهذا الأمر يتطلب، درجة عالية من الصبر والتحمل على الاستقصاء، واقتفاء أثر المادة البحثية، خاصة أنها في الغالب، مادة شفهية تتوزع على الذاكرة الفردية والمحفوظات الإنسانية المختلفة، التي يصل أحيانا، درجة التناقض والاختلاف، غير أنّ الباحث الخضريّ، بفطنته، يستطيع التمييز بين العناصر، وموازنتها، واختيار الأنسب منها.
وسبق القول إنه استفاد من تكوينه الشامل في مجال المناهج البحثية، الشيء الذي خوّل له القيام بحفريات في مجال الفن الشعبي بشتى تلويناته، وتفرعاته، ومجال المهن التي باتت مهدّدة بالانقراض، وكتابة سير بعض الحرفيين، والمهنيين، والأمكنة والفضاءات الشهيرة التي عجّل الزحف الإسمنتي في القضاء عليها، بل إنه أحيانا، يكتب عن أشياء، وممارسات، ووجوه، وأمكنة ما عادت موجودة، ولا يعرفها الجيل الجديد. وهذا يعدّ، في حد ذاته، عملا خلاقا جديرا بالتقدير والتثمين، وهو عمل، بقدر ما يمكن للأفراد القيام به، فإنه لا يمكن أن نخلي مسؤولية المؤسسات المجتمعية ذات الصلة، من الاضطلاع بدعمه، وحفزه، حتّى يكون مكتملا، وشاملا.
المنظور الذاتي
يتضح البعد الذاتي لهذا العمل في كونه يوثق، في الآن نفسه، لانشغالات المبدع والباحث، فيكتب سيرته الشخصية بشكل ضمنيّ، بمعنى أنه يرصد طبيعة وعيه بالعالم والأشياء، ويدوّن مستويات الرؤية لديه في أبعادها المختلفة، التي بقدر ما تحمل تعددا وتباعدا، فهي تلمّح لعمل متناسق الأسيجة، والحدود، والأنساق، والرؤى؛ بما يمنح المشروع الثقافيّ لدى الباحث سمة الجدّة والابتكارية والراهنية.
المنظور التصويري
يوازن الخضري في التوثيق والحفريات والتدوين بين الكتابة والتصوير الفيلمي، أو الفيلم الوثائقي، الذي ينقل صدى الثقافة بالصور وبالكلمات معا، وهو وعي متجذر في شخصيته الثقافية المتعددة، يؤمن بأهمية الانخراط في عصر المعلومة، وعصر الصورة، وعهد التكنولوجيا، وطفرة الوسيط الجديد، بلا أدنى تردد، إنْ نحنُ أردنا السيرَ قُدما في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسدنا الثقافي، والرّهان على المستقبل.
٭ ناقد وروائي مغربي
كان للسيد خالد الخضري على ما اعتقد برنامجا اذاعيا يهتم بالفن السابع
–
في زمن الاثير تعلمنا منه الكثير و احببنا فن السينما
–
تحياتي