اليوم أمام الفرن، تحوّل لون الخبز على غير العادة من أسود وسيئ الصنعةِ إلى أحمر قانٍ، مغمّس بحنّاء جدائل السوريات ودماء السوريين الذين رحلوا.. ارتاحوا من هذه المأساة!
بعد دقائق من الإفطار، وسط صمت أكثر من قاتل، جذبت مُسنةٌ، فتاة عشرينية من جدائلها مع بقايا مساحيق تجميل رخيصة، مختلطة بدموع غزيرة تجري خلال أربع من الأثلام المائلة المدماة على خديها: «امشِ، تعالي، تدفعها دفعاً إلى كومة الأشلاء، يا بوم الشؤم ما عدنا نستطيع التعرف على أشلائه، كان يحبك، وقلبك العاشق سيدلنا على أشلاء جسده» أرادت العجوز من العاشقة أن تستفتي قلبها ليدلهما إلى بقيته الباقية. مع تكبيرة الآذان وقبلها صوت نقرتين من مؤذن الجامع القريب منهم على لاقط الصوت للتأكد من فعاليته، إلا اليوم لم ينتبه أحد لفعالية الصوت، لشرب ماء أو تناول تمرة، فمنذ صوت التفجير الصاعق قبل الإفطار بدقائق، ركضوا حفاة جميعاً أمام الفرن يبكون عزيزاً، غير مصدقين الاختلاط الكبير بين الأشلاء؛ أذرع، سواعد، سيقان، أقدام، أفخاذ بقايا أبدان، جماجم إلا تلك الفتاة بقيت متسمرة في البيت أمام صحن البرغل ولحم الفروج، التي ظلت جارتهم الكردية، التي تعود بأصلها لعشائر «الكيكان» تلقنها أسرار طبخ البرغل ذي الحبة المتوسطة مع الشعيرية المضاعفة، مذ أن همس بإذنها: «يا بنتُ، أنا لا أحب ثريد اللحم وخبز الصاج، أنا مثل جيراني الكرد، أُحبُّ البرغل، وأريده زائد الشعيرية، الدسم والملح» صارت نظرات التوسل لأمها أن تتحدّى سلطة أبيها بعد تلقيها فنون طبخ البرغل، والتخلي عن تقديم الثريد والحميس للخطيب العتيد، متجاوزين قواعد الضيافة العشائرية، كانت من السمراوات العذباوات، الأقرب لسمرة اليمنيات.
ظل يلحق أمّه السمراء لتخطب له فتاة سمراء. أمه ظلت مترددة، في الموافقة، على خطوبته منها: «يا قطعة من القلب واللون، أنت أسمر البشرة، تزوج صهباء، حتى يتعدل لون نسلك، مللنا من السواد المخيم على كل شيء هنا» يحاجج أمه؛ أرىدها سمراء مثلكِ، لأُغني لها:» البيضاء سمّ الموت والسمراء عود قرنفل». صارت السمراء تذوي، تذبل كلما سمعتْ صيحة «الله اكبر» تلك الصيحة المرعبة التي سبقت الصوت المدوي حين ضغط انتحاري زرّ حزامه الناسف، خالطاً الخبز بالدم والأجساد وتأوهات الناجين وأهاليهم. من حينها لم تتناول خبزاً لا ابيض، ولا أسمر، لا خبز تنور ولا فرن حديث، الخبز هو من قطّع حبيبها إلى ثلاث أو أربع من القطع؛ فخذان مهشمان، موصولان مع ساقيه بشرائح من جلده الأسمر، أمعاء مندلقة وبقايا ذراع، تعرّفت على يده اليمنى القوية، التي تعاركتْ مديداً مع طين الخابور، لسقاية القطن، كل غرزة معول كانت ترفع من الطين، ما يكفى لبناء سدٍ آخر، على نهر صار يذوي أيضاً، كان يتفكه من معوله وطعناته للأرض، ماذا لو كان للأرض قلب، واليد نفسها كانت!
تشير لصدره: «يا مُهرتِي الكحلاء، لا فتاة تسكن هنا، إلاكِ».
اهتدتْ خالته إلى فخذيه من اعوجاج ظفر إبهام قدمه اليسرى، إذ سقط عليها حجر ثقيل، عندما كان طفلاً، فظل الظفر والإصبع معوجين، بقي أن تستجمعا بقايا البطن، كان مختلطا مع أبدان آخرين، أحد الأبدان كان متصلاً مع الصدر. لم تتردد السمراء، لم تلتفت، خالفت، اخترقت جدار الخجل والحياء، هجمت على امرأة أخرى تقلّب بقايا البدن مبعدة إياها: «هذا هو، هذا هو القلب الذي لم تسكنه فتاة سواي» مشيرةً لذلك الصدر المتصل مع البطن، كيسان من المستعملين في حفظ السماد الآزوتي (كيسُ السعف) مملوءان ببقاياه، لم يكن هناك من قنب أو حبل لربطهما، الفتاة العشرينية لم تجد أغلى من جديليتها، لربط الكيسين، والاطمئنان على سلامة ما تبقى من حبيبها، قصتهما بقطعة زجاج كانت أيضاً من فضائل الانفجار اللعين، ربطت فوهتي الكيسين، وتنفّست أخيراً معتقدة أنّها دفنت قلبها وأحلامها معه.
طبيب وكاتب سوري
تحياتي دكتور جوان حمى
النص: يحاكي واقع سوريا بإبداعك الراقي .
احيييييك دكتور
ألم السوريين لا مِداد تكفيه لنكتبه