لو أن الرئيس التونسي قيس سعيّد ذهب إلى دولة تطل شواطئها على الشواطئ الجزائرية وقال إنه بحث مع رئيسها المأزق الذي تمر به الجزائر واتفقا على مساعدتها على تجاوزه، كان المسؤولون الجـزائريون وكثير من الإعلاميين وقادة الأحزاب والوكلاء، المعتمدون وغير المعتمدين، سيقلبون الدنيا على رأس سعيّد وتونس.
الجزائريون، ولأسباب موضوعية وتاريخية، من أكثر الناس حساسية في موضوع التدخل في شؤونهم. تأكد ذلك في تسعينيات القرن الماضي عندما كان الأبرياء يُذبحون بالمئات أسبوعيا، والسلطة آنذاك عاجزة عن حمايتهم وفي الوقت ذاته ماضية في استعمال كل الطرق لمنع أيّ نقاش خارجي (وداخلي) حول ما كان يجري.
فماذا دفع الرئيس عبد المجيد تبون إلى الحديث عن مساعدة تونس في مأزقها وهو يعرف حساسية الموضوع في المطلق وللرئيس قيس سعيّد هذه الأيام بالذات؟
من المؤكد أنها ليست زلّة لسان، وأن وراءها انزعاجا جزائريا من الرئيس التونسي. هناك أسباب عديدة للانزعاج، أبرزها أن الرئيس سعيّد يريد الاصطفاف بتونس في معسكر «الناتو» والولايات المتحدة في الصراع مع روسيا، وكذلك إعجابه بالرئيس السيسي وسياسته الخارجية غير المتوافقة مع الحسابات الجزائرية في أغلب الأزمات الإقليمية.
لهذا أعتبر ردّ الفعل التونسي الغاضب من كلام تبون في روما مشروعا. وأعتبره أيضا معتدلا وتميّز بحكمة من السلطات هناك تمثلت في امتناعها عن التعليق أو استدعاء السفير الجزائري، مفضّلة ترك الأمر لصحافيين وقادة حزبيين يتمتعون بهامش حرية أفضل من المتاح للأحزاب والصحافة في الجزائر.
الجزائر اليوم ليست أفضل حالا من تونس. ما قاله تبون عن تونس ينطبق بالحرف على الجزائر، فلا لوم على بعض التونسيين في غضبهم وردّهم بتلك الحدَّة.
شخصيا لا أؤمن بشعار «عدم التدخل في شؤون الغير» عندما يُستعمَل في المطلق وفي أيّ سياق كان. أعتبره مفرطا في الرومانسية ولا مكان له في عالم اليوم. هذا الشعار هو الذي أبقى الجزائر على هامش المعادلة الليبية بينما جاء الآخرون بالجيوش والمرتزقة والسلاح من كل أصقاع الأرض يهددون أمن الجزائر على مرمى حجر من حدودها الشاسعة مع ليبيا (نحو ألف كيلومتر).
التدخل في شؤون الغير أصبح ضرورة تمليها المصالح المتداخلة بين الدول والصراعات والمؤامرات وتقلّب موازين القوى الاستراتيجية عبر عالم اليوم. إذا تأخرتَ عن التدخل حيث يجب عليك أن تتدخل، فعليك أن تستعد لدفع الثمن يوما ما. عندما يكون أمنك القومي والاستراتيجي على المحك، يصبح «التدخل في شؤون الغير» ضرورة ومهمة قومية.
لكن… مثلما يحتاج عدم التدخل إلى حكمة وبصيرة حتى لا تدفع ثمنه غاليا، يجب أن يكون التدخل محسوبا جيدا ومرفوقا بحكمة ورؤية ثاقبة وصافية حتى لا ينحرف ويصبح معضلة.
ما جعل «حادثة روما» تأخذ هذه الأبعاد كونها شكّلت حجرا في بركة العلاقات الجزائرية التونسية الراكدة في هدوئها. تبدو هذه العلاقات، نظريا، عادية وأحيانا مثالية، لكنها في العمق تعاني من خلل
الوضع المتأزم في تونس لا ينذر بالفيضان إلى خارج حدودها. ما يجري هو صراع بين رئيس يحلم بأن يصبح ديكتاتورا، وطيف واسع من المجتمع السياسي والمدني يرفض طغيانه ويصمّم على منعه.. صراع بين نسخة تونسية من القذافي لكن بدون نفط ومن السيسي بدون جيش، ومجتمع ذاق ما يكفي من الديكتاتورية ويرفض العودة إليها.
سعيّد، في نهاية المطاف، ليس نابليون بونابرت وليس بورقيبة ولا حتى بن علي. هو مجرد هاوٍ قابل للاحتواء بشيء من الصبر والإصرار والتعلم من تجارب الآخرين. الوضع لا يشكّل حتى الآن خطرا على الأمن القومي الجزائري، ولا أمن أيّ دولة أخرى.
ومع ذلك، ومن باب الحيطة وتوقّع الأخطار، يحق للجزائر أن تهتم بالتطورات في تونس وتراقبها. لكن هذا الاهتمام المشروع في حاجة إلى عنصر حاسم: الإتقان.
في جانب الإتقان هناك شكل إشارة تبون إلى تونس، خصوصا من حيث المكان. من المستبعد أن الرجل لا يدرك الحساسية المفرطة للرئيس سعيّد من أيّ انتقاد خارجي لمسار هيمنته على الحكم. وهجومه اللفظي الحاد على الأوروبيين، حتى وإن كان من باب المبالغة و«التمثيل» دليل على ذلك. «التصويب» نحو تونس من روما ليس أمرا موفقا ولا محبّذا. روما ليست المكان المثالي لذلك.
هناك أيضا مضمون «التصويبة». هل الجزائر قلقة فعلا على مصير التجربة الديمقراطية في تونس؟ يعرف القاصي والداني أن النظام الجزائري في عهد المخلوع بوتفليقة كان أحد أشد خصوم تجارب الربيع العربي، وبذل قصارى جهده لوأدها. ولا توجد علامات عن تصالح بين الربيع العربي، ولو كفكرة، والنظام الجزائري بعد سقوط المخلوع. من نافلة القول أن آخر همّ المنظومة الحاكمة في الجزائر أن تسطع شمس الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية على ربوع المنطقة.
طيب، ماذا لو أن تبون خانه التعبير وأن قصده كان استقرار تونس (وليس ديمقراطيتها) وأن هذا الاستقرار يتحقق من خلال دعم الرئيس سعيّد؟
أجد هذه القراءة الأقرب إلى الواقعية وتستمد منطقها من كون الجزائر دعمت سعيّد في مسار استيلائه على الحكم منذ 25 تموز (يوليو) الماضي. كان دعما سياسيا معلنا، وماليا تمثل في قرض بـ300 مليون دولار أُعلن عنه نهاية العام الماضي.
هذا هو التوجه الطبيعي والمنتظر من منظومة الحكم في الجزائر. مصلحتها أن يكون في جوارها الشرقي حكم يشبهها ويكمّلها وتطمئن له وسط الغموض والمخاطر المحيطان بها من الغرب والجنوب ومن ليبيا كذلك.
ما جعل «حادثة روما» تأخذ هذه الأبعاد كونها شكّلت حجرا في بركة العلاقات الجزائرية التونسية الراكدة في هدوئها. تبدو هذه العلاقات، نظريا، عادية وأحيانا مثالية، لكنها في العمق تعاني من خلل عنوانه شيء من النظرة الأبوية من الجانب الجزائري إلى «الشقيقة الصغرى الفقيرة» التي «تحتاج إلى قوة شقيقتها الكبرى وثروتها».
وليس من الخطأ الاعتقاد أن هذه «الأبوية» الكامنة هي أحد محركات «تصويبة» تبون من روما، إضافة إلى الأسباب السياسية والدبلوماسية.
كاتب صحافي جزائري
شكرا للكاتب على هذا التحليل الموضوعي.
نعم دبح الآلاف من ابناء الشعب والسلطة لم تحميهم ولم تستطع ذلك لأن الفاعل الحقيقي هو الحاكم الفعلي وأما ما يسمي بالسلطة فهي صورية فالبلاد لا تحكمها الأحزاب أو أو من تأتي بهم الانتخابات فمنذ الاستقلال والبلاد تحت الحكم الواحد بخلاف تونس والجميع يعلم هذا تحياتي لكل باحث عن الحرية والديموقراطية.
تحليل رائع وموضوعي والحكام العرب جلهم، اخر همهم الديمقراطية ماوقع في 2011 انقلب عليه بتخطيط من الجامعة العربية الخاصة بالحكام المستبدين وليس الشعوب هاد الاخيرة بعضها اراد الخروج من الحضيرة ولكن أ’رجع إليها بسرعة البرق وقيس سعيد مجرد بيدق للاجهاز على اول من اراد الخروج (تونس)من حضيرة الاستبداد والان يتصراعون لارجاعه بشتى الطرق وراهم ناجحين في دالك..
صدقتم و ابدعتم. تحية.