لم نكن بحاجة الي اخلاء سبيل الرئيس المخلوع لنتذكره، فلا عليك الا أن تطالع الاعلام المصري، لتجد نفسك في اجواء عهده، وكأن ثورة لم تقم، وكأن رئيسا لم يخلع!
اعلام مبارك أخرج اسرائيل من خانة الاعداء، وقام بشيطنة جماعة الاخوان المسلمين، كما شيطن البرادعي، وقناة’ الجزيرة، وما يحدث مع الجماعة المذكورة، لم يذكرنا فقط بما جرى في عهد المخلوع، انما يذكرنا بأجواء الستينيات، وما أدراك ما الستينيات، وهي العبارة التي ذكرها الرئيس محمد مرسي في أول خطاب له فقيل ‘يا داهية دقي’، وتعرض الرجل بسببها لهجوم حاد، مع أنه ذكرها في سياق حديثه عن الحريات، ولم يكن عهد الرئيس عبد الناصر ديمقراطياً، ولا أظن أنه اهتم بتقديم نفسه للناس على أنه رجل الديمقراطية الأول.
لا بأس فالاستاذ محمد حسنين هيكل واضع سيناريو الانقلاب، أعادنا بما وضع، الى سنة 1954، وكل ما قرأناه في أسفار الذين خلوا من قبل، من قمع للرأي الآخر، وتغييب له، واستهداف المعارضة، نشاهده الان بالصوت والصورة، ولعلي كنت من الاوائل الذين تنبهوا الي لمساته، فأسلوبه كان حاضراً في البيانات التي ألقاها الفريق عبد الفتاح السيسي، وفي لقاء لهيكل مع لميس الحديدي، قال ان السيسي عرض عليه خطابه قبل تلاوته، والذي فيه أن الشعب لم يجد من يحنو عليه ويربت على كتفيه ويقول له سلامتك من الآه. وأنه، أي هيكل، سأله من كتب هذا الخطاب؟، فرد عليه السيسي: لقد كتبته بنفسي، فأبدي هيكل اعجابه بصياغته.. يكاد المريب أن يقول خذوني.
المخلوع قزم الدولة المصرية، بأن جعل من فضائية الجزيرة، هي العدو، وكان في الموضوع جزءاً من ‘النفسنة’، فالجزيرة جاءت لتؤكد على فشل رجل النظام القوي صفوت الشريف، الذي يدير امبراطورية اعلامية، لا ينقصها المال، ومع هذا ظل في المؤخرة بين فضائيات العرب العاربة والعرب المستعربة، ثم أن الجزيرة كانت مهتمة بالرأي الآخر الذي يقمعه مبارك، وكانت مواقفها منحازة للمعارضة المصرية، ومنحازة ضد خيارات مبارك، بما أهله لأن يكون كنز اسرائيل الاستراتيجي، وكونه من التابعين من غير اولي الاربة ‘لجماعة الخير’ في المملكة العربية السعودية.
وقد جرت محاولات للمصالحة لازالة أثار العداء بينه وبين الجزيرة، لكنه عاد من الدوحة أكثر عداء، فقد زار مقر الجزيرة، وهناك ذكر مقولته الشهير: ‘ كل هذا يحدث من علبة الكبريت هذه’؟!.. وألتفت الى وزير اعلامه صفوت الشريف، الذي أسرها في نفسه، وقد تلقيت بعد زيارته دعوة للمشاركة في برنامج ‘الاتجاه المعاكس’، ورأيت ‘علبة الكبريت’، التي هي ليست سوى مبنى من طابق واحد صغير حجماً، وكان به استوديو واحد لو تم استهدافه لرقدت الجزيرة على رجاء القيامة، وفي العام التالي كنت هناك أيضاً وشهدتهم في حالة من الحبور، لأنهم شيدوا استوديو جديداً.
من قناة لشبكة
قبل أسبوعين كنت هناك، وشاهدت توسعاتها، فقد تحولت الجزيرة من قناة الي شبكة، والجزيرة الأم تجلس ومن حولها ابنائها، من الجزيرة مباشر، الي الجزيرة مباشر مصر، الى الجزيرة الرياضية، الى الوثائقية، الى الانكليزية.. الخ.. لكنها توسعات لا تمكنها من ان تكون بحجم ناطحة السحاب المسمي ‘ماسبيرو’، وهي كالتوسعات التي شهدتها للعاصمة القطرية الدوحة، بالمقارنة برحلتي في عامي 2003 و 2004، وذات يوم كنت مع الرائع ‘عثمان’ فتي الجزيرة الأسمر ‘في سيارته نقصد أحد الفنادق، ولف بي الكرة الأرضية، بشكل دفعني للقول لم تكن كل هذه التوسعات في الدوحة عندما زرتها قبل سنوات؟.. فجاء جوابه: الامر لا علاقة له بالتوسعات فأنا تائه.
بعد ذلك علمت ان مذيع الجزيرة، ‘عثمان’، يتوه في الدوحة، كما أتوه انا في القاهرة بعد اقامة ممتدة لاكثر من ربع قرن فيها، ومن قبل تاه جمال مبارك عند زيارته لخطيبته، قبل ان يتزوجها على كتاب الله وسنة رسوله ومذهب الامام أبي حنيفة النعمان، فهتف احدهم: كيف لرجل يتوه في بلد يسعى ‘لحكمه. ولا بأس فهؤلاء من كانوا يمثلون المعارضة التي يُسمح لها بالحركة في عهد المخلوع، وعندما سقطت ورقة التوت التي تستر العورات، وجدنا هناك من يعلنون خديعتهم فيهم، وأسمع هذا الكلام الآن واخره ذكره نائب رئيس حزب ‘الوسط’ في مقابلة مع ‘الجزيرة مباشر مصر’ فلا أملك الا أن ابتسم فقد كشفنا حقيقة هؤلاء للناس قبل سنوات، فاتهمنا المعارضون حينئذ بالتحامل.
‘عثمان’ فتى أريتري عذب الروح لا من غضاضة، يجيد تقليد الناس، وعندما انصرفنا علمت انه قلدني، فكما تدين تدان، وأنا من يستهويني تقليد الآخرين، و’عثمان’ يتحدث باللكنة التونسية، كما التونسيين، على الرغم من انه لم يزر تونس قط، وفي صحبته وجدت الألوان على اشكالها تقع، فقد كان معه كل العاملين من العواصم الافريقية بالجزيرة، واختلطت بهم، وصارت جلستنا كما لو كان اجتماع للاتحاد الافريقي، وأنني اقوم بمفاوضات مع زعماء القبائل لدفع اثيوبيا للتراجع عن بناء سد النهضة.
وشعرت بالالفة مع القوم، على نحو عوض عدم اتصالي بزملائي من المصريين في الدوحة لانشغالي عنهم، فلم تدركني الغربة، وكنت قد قلت له في البداية كان عليك ان تختار أحد الذين لم ترفع المطربة جواهر معنوياتهم بأغنيتها الشهيرة: ‘حبيبي يا أسمريكا’، وقال انه كان من المفترض ان يكون معنا محمود مراد لكنه اعتذر.
منذ اللحظة الاولي بدا لي أن أرواحنا التقت من قبل، في هذه ‘الصحبة الجميلة’، لكن لا أنكر أن احساسي بالغربة تبدد بمجرد ان شاهدت خالد الذكر جمال ريان، الذي يشعر بالخبر ويحسه فيخرج من فمه على النحو الذي نسمع ونرى.. بشراً سوياً، كتبت من قبل ان الكلمات تخرج من فم خديجة بن قنة عذبة ملحنة.. فسبحان الذي خلق فسوى.
الدكتور محمد الجوادي اختار لبن قنة وصفا دالاً: انها ملكة، اذ كان هو وحسن نافعة في الاستوديو، سألت خديجة الجوادي وسأل محمد كريشان نافعة، واستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، كان طيلة هذه الرحلة يقلد الصغار، فلا يكاد يتكلم حتى يتهم الجزيرة بالتحامل على ‘مصر’، وباعتبار قادة الانقلاب هم ‘مصر’ ولا ينسى من ان يشكو من الاضطهاد على يد الجزيرة، ربما ليبرر ضعف دفاعه اذا عاد، ونحن لدينا مشكلة في اساتذة العلوم السياسية في مصر، فالواحد منهم يظل يشعر انه لم يحصل من الدنيا على شيء، ما لم يصبح وزيراً، والشعور بالاضطهاد باد على وجه وملامح الدكتور نافعة.
طلقة في عالم الاعلام
لم يكن شعور صاحبنا بالاضطهاد مبرراً على النحو الذي قال، لا سيما وانه في مواجهة’ مذيع محترف هو كريشان، وهو الذي قبله هيكل محاوراً، واختصه بمحاورته، وأتمنى ان يحاوره حول دوره في الانقلاب، سينكر الكاتب الكبير قطعاً، لكنه سيترك حتماً دليل الادانة خلفه.
لم يكن أمام الجوادي سوى أن يؤوب مع نافعة، فقد ذكر انه يجري اضطهاده فعلاً، لأن من سألته هو كانت هي ‘الملكة’، وهذا تمييز واضح في المعاملة.
لم يكن حظي من حظ الجوادي فقد كنت مضطهداً كحسن نافعة تماماً، فلم تسألني ‘لملكة’ وانما سألت عمر هاشم ربيع، لكني اعتبرت ان تاريخ الجزيرة تمثل لي بشراً جنيا،عندما دلفت للاستوديو وصافحتني، فخديجة من جيل الجزيرة المؤسس، الذي نظر اليه المشاهدون نظرته لنجوم ونجمات السينما، ووصل الحال الى حد السعي للوقوف على تفاصيل حياتهم الخاصة، وفي بلدتي في أقاصي الصعيد، استمعت الي حديث من هذا النوع، ولا أعرف مصدر معلومات المتحدث؟!
لا بأس، فقد جاءت الجزيرة ‘طلقة’ في عالم الاعلام، وهذا الاهتمام له ما يبرره، لكن الذي نسيته أنه في أول لحظة دخلت فيها الاستوديو، تجلت امامي جمانة نمور تقرأ نشرة الأخبار، ولا اعرف ان كانت قد عاصرت افتتاح هذا الاستوديو أم انه شيد بعد تقديمها لاستقالتها، وقد علمت انها تراجعت عن فكرة العمل في قناة ‘الغد العربي’.. البعض يقول ان محمد دحلان شريك في هذه القناة،’ والبعض يقول ان فضائية دحلان لم تر النور بعد، وسيظل الأمر ملتبساً الى حين ان نعرف من أصحاب’ ‘الغد العربي’، التى’ لا تزال الى الآن في مرحلة البث التجريبي.
استيقظت من لحظة التخيل ويدي في يد ‘عثمان’.. أرزاق، لكن عزائي أنني لم أحرص في المرتين السابقتين على رؤية جمانة نمور، رأيت في أول مرة جمال ريان، ورأيت في المرة الثانية جميل عازر من بعيد قبل موجز الانباء، فلوحت له بيدي فابتسم، كانت هذه المرة الاولى التي أراه مبتسماً، فشعرت بأن الكون كله في حالة انشراح فطري، أما المرة الثانية فكانت عندما حطت ذبابه على وجهه، فهشها بيده فطارت ثم عادت، فهشها ثانية، فطارت ثم حطت على وجهه.. فابتسم!
جميل عازر مدرسة في الالقاء، وقد جلست في حضرته هذه المرة، ومع أن الوضع المصري المأساوي هو موضوع النقاش، الا انني تحاشيت النظر اليه، وانشغلت بالنظر الى الكاميرا، وتذكرت ما كان يحدث معي صغيراً عندما كنت أذهب الي سرادقات العزاء، فأناضل لكي امنع تجوال ضحكات بالقوة تريد ان تنطلق الي الفضاء الفسيح وبدون سبب منطقي، وكنت سأعرض الموقف على اساتذة الطب النفسي لتفسيره، لولا انني شاهدت أحدهم عبر احدى شاشات التلفزيون المصري، يشيد بأداء الفريق السيسي ويفسر’ معنى هدوءه وهو يلقي خطابه، طبعاً هذا الهدوء مرده الى الثقة في النفس، والاعتزاز بالشعب، واليقين في نصر الله، ولم يذكر سيادته ما قاله السيسي ومثل نكتة من العيار الثقيل، وكانت موضوع تقرير لصاحب الصوت الجميل المعبر، والكلمات التي تبدو انها مقطوعة موسيقية، ماجد عبد الهادي، وهو قوله: ‘أي حاجة مترضيش ربنا احنا بنقف معها وندعمها ونأيدها’.. لو كانت زلة لسان للرئيس محمد مرسي لأمسكوا له الربابة وهاجموه على ألحانها، وهم من كانوا يقفون له على الواحدة.. لكن من يجرؤ على الاقتراب من ساحة الحكم العسكري العضوض؟!
عندما استمعت الي الدكتور أحمد عكاشة قلت آن لابن عزوز أن يمد قدميه، ولم أكترث بفكرة التفسير النفسي لحالتي وأنا اتلقى وابل الاسئلة من المرموق جميل عازر.
التقاليد الاعلامية
ماجد عبد الهادي قدم عدة تقارير خلال الفترة الماضية، عن اداء فضائيات الانقلاب في مصر، المتجاوز لكل الاعراف والتقاليد الاعلامية، وقد حسدته لقدرته على المتابعة والرصد، وأنا من المؤمنين بأن هذه المتابعة يمكن أن تؤثر في السلامة النفسية للمشاهد، ولي قول قديم: ان من الذنوب ذنوباً لا يكفرها سوي مشاهدة لميس الحديدي. فلا يشاهدها المرء الا من ذنب أصابه.. لا بأس ماجد مضطر فأكل العيش مر.
اعلام الثورة المضادة يقوم بحملة ضد قناة الجزيرة، فذكرني بزمن حسني مبارك، وهو جزء من اعلامه، ويمارس وصلته القديمة بعد ان أعادنا انقلاب 3 يوليو اليه، وكنا طيلة عامين ونصف سابقة على هذا التاريخ في ‘فاصل’ بدأ بانتصار الثورة، وكان الثوار يعتبرون الجزيرة’ سلاحهم الاعلامي الذي يقول الحقيقة فيعري اعلام الفلول، والجزيرة هي التي نقلت موقعة الجمل للعالم كله، فحمت الثوار من العصف بهم.
وحملة الابادة الاعلامية ضد الجزيرة ‘كوم’، وما تفعله السيدة وزيرة الاعلام ‘كوم’ اخر، واختيارها لهذا الموقع كاشف على عودة نظام مبارك، وهي تدرس الان الغاء ترخيص ‘الجزيرة مباشر مصر’، وهذا اعتراف بأنها حاصلة على التراخيص القانونية للعمل، على عكس ما روجوا له من انها كانت تعمل في مصر بالمخالفة للقانون.
والمثير ان وجود هذه التراخيص لم يمثل حماية لها، فجرى اقتحام مكتبها بالقاهرة ومصادرة ‘المنقولات’.. ثم ان وزيرة الاعلام يسيطر عليها احساس بأنها محور ارتكاز الكون، وانها تستطيع حجب الجزيرة، وانها بالغاء ترخيصها فسوف تغني ‘الجزيرة مباشر مصر’ ظلموه.. هذه سيدة قديمة للغاية، من زمن ‘الطشت قاللي يا حلوة يالي قومي استحمي’.
تعرفون أبو ‘الفصادة’ بطبيعة الحال؟.. وهو طائر معروف بأن ساقيه دقيقتان..
أبو ‘الفصادة’ نام على ظهره، ورفع ساقيه لاعللا وظل يهدد من حوله: ‘اذا لم تسكتوا فسوف انزل ساقي لتسقط عليكم السماء’.
مرحبا بالرئيس المخلوع في ثورته وبين ابنائه الذين ورثوا عنه منهجه في التعامل مع الخصوم.. كما ورثوا ذكاءه الحاد.
صحافي من مصر
[email protected]
‘
”””””””””””””””””””””””””””””” ””””
‘
‘
‘
‘
رائع دوماً . . الأستاذ سليم عزوز . . قدرة فائقة على الجمع بين السخرية والجد . . بطريقة تساعد على إيصال الحقائق والقناعات . . فى قوالب أكثر جمالاً . . وتفرداً . . وتمنح مفرداتك وعباراتك خصوصية تعبر عن نفسها فقط . . ولاتعترف بتقليد غيرها . . فلا تتماشى مع مايقال بحكم الأمر الواقع (الإنقلاب ) . . ولكنها كالمرآة . . لاتعكس إلاً ماهو كائن حقيقةً .
حقيقةً . . وأنا أقرأ لك . . أحظى بمتعتين هما (التحليل والرؤية الموضوعية (الجادة) للأحداث و(النكتة وخفة الدم ) فى التناول . .
مع ودى وتقديرى
كمشاهد اوروبي من اصل مغربي سعدت كثيرا بطلتك يا استاذ عزوز على الجزيرة لو انها كانت قصيرة جدا كما سعدت بثلة من الاساتذة الافاضل مثل المفكر الجوادي وغيرهم الذي برهنوا عن معدنهم النفيس بتمسكهم بالمبادئ من مناهضة الظلم والاستبداد,انتم مفخرة مصر في مقابل الطوفان من المسترزقين والمدلسين الذين يتاجرون حتى بالقيم,
مع اعتزازي وتقديري لكتاباتك الجميلة التي تنبض من داخل الالم المجهول للشعب المصري ، واعتقد جازماً ان الشعب المصري يعرف وعلى يقين ان من طردوا في الماضي مثل صاحب العبارة المشئومة وغيره قد عادوا ، وان الاوان لايخذوا بالثار من الشعب المسكين ، وسيزداد الفقير فقرا ، واتمنى ان تكون نظرتي غير صائبة ، لذلك انصحك اخي ان تترك الاخوان الان ، وتكتب عن اركان الفلول وطواغيته الذين عادوا وهم يقدحون شرراً .
صباح الخير خالي العزيز ، حتى في أحلك ساعات الحزن تأبى إلا أن تسعدنا و تبهجنا ، أضحك الله سنك .
تحية لكل كاتب منصف وعبقري مثلك
انت من مقام عزمي بشاره واحرار العالم
جزاك الله خير سيدي العزيز , والله ان مقالاتك ترفع المعنويات في هذا الزمن الردىء باشخاصه
مبدع
والله ان كتاباتك تشفي الغليل بارك الله فيك وفي حسك الوطني
مقال رائع كالعاده. انت قامة عاليه لن يصلك إليها احد في مصر.
حزنان عليك بالنسبة لنمور ^_^