تعددت أساليب التعامل مع الجسد الأنثوي، بتعدد الوعي بأهميته، والمرتكزة أساساً على ثقافة الجسد. شأنها شأن البنى الأُخرى، حيث شكّلت مجمل رؤى الكتّاب في النص السردي.
يشمل هذا الكتّاب والكاتبات، فكل طرف تعامل بما يتناسب مع رؤيته الجنسانية، ووفق وعيه لوظائف الجسد. ولعل أحلام مستغانمي، ونوال السعداوي، سميحة خريس، بسمة النسور، تعاليّن بقيمة الجسد، ومنحنه وظائف لا تقل عن وظائف الجسد الذكوري. حيث عملن على ترسيخ وجوده من بين الأصرة الجمعية. بينما منحه د.هـ . لورنس قيمة انتقائية تتعلق بالعلاقة الجنسية المتعادلة والجالبة للتوافق بين الذكورة والأنوثة. فالجديد من هذا الاعتبار هو القيمة العليا، يُنظر إليها اجتماعياً وعبر التاريخ بنظرات تتضارب خلالها الرؤى، ابتداء من نزول حوّاء مع آدم وأُسطورة قابيل وهابيل وصولاً إلى شهرزاد في كتاب الليالي.
سقنا هذه المقدمة، للبدء بقراءة رواية أحمد الجنديل الموسومة «إمبراطورية الثعابين» لأنها تناولت الجسد من باب القيمة المادية، أي التداول الوظيفي الاقتصادي. بمعنى أن الجسد في النص سلعة تدر أرباحاً عبر فعل الزنا. والأنثى لا تشكل مركز الانحراف الاجتماعي والجنساني، بل هي قوانين الحياة المنحرفة من دفع المرأة إلى جعل ممارسة الفعل سبيلاً للغنى والاستحواذ. وكان مثل هذا الفعل تأكيداً على موقف الأنثى من الانتقام، كحجة تبريرية لمثل هذه الممارسة الشاذة. إن التفاوت في مستوى المعيشة، والعوّز المستدام الذي أنتجته السياسة المالية في البلد، أنتجت هذه الظاهرة من بين مجموع الظواهر التي فتكت بالمجتمعات الصغيرة، وصولاً إلى المجتمع الأكبر وهو الوطن، لذا فالرواية خطاب سياسي مباشر بلبوس جنساني.
إن التحوّلات في أنماط الحياة لدى جماعات تأثرت بالثروة، بدون مسوّغ قانوني وأخلاقي، تحكمت في أسلوب الحياة، ووفرت بيئة خصبة لتوفر جملة انحرافات اجتماعية، تعتبر دخيلة على الواقع.
رؤية الكاتب القائلة، إن الصراع الدائر في البلد اتخذ له طريقاً شرعياً للكسب والاستحواذ، هذا صحيح من الناحية الأخلاقية والبنية الاقتصادية، لكنه غير مبرر في صنع الانحراف، على الرغم من أن السبب والنتيجة واحدة
ومؤلف الرواية عالجها بلغة متشنجة في كثير من المواقع، تلبية لروح الانتقام والتنكيل بالخصم المختلف، فشخصية (ساجدة البركان) صحيح إن وجودها في النص هو من صنع خيال الكاتب، غير أن هذا التعامل، وكما هو معروف، هو نتاج حراك أنثروبولوجي ارتدى لباسا سياسيا. فهو مقطوع الجذور عن طبيعة المجتمع، وشيوعه ناتج عن شيوع مجموعة أخطاء يمكن أن نقول عنها متعمدة، لذا نجد في رؤى المؤلف وفي مسألة الانغماس في الرذيلة، جزء من الموقف الذاتي الذي يثأر للجماعة، فالزنا هنا ردة فعل على الانحراف العام، ولعل اختيار الكاتب هذا المتن من الحياة، كان له مبرر ذاتي أيضاً، بمعنى وضع الرؤية الذاتية موضع التطبيق، فرؤيته من بين رؤى كثيرة تحددت في انحراف الجسدين الذكوري والأنوثي. ولعل انحراف الثاني جاء ردة فعل على انحراف الأول.
ولعل رؤية الكاتب القائلة، إن الصراع الدائر في البلد اتخذ له طريقاً شرعياً للكسب والاستحواذ، وهذا صحيح من الناحية الأخلاقية والبنية الاقتصادية، لكنه غير مبرر في صنع الانحراف، على الرغم من أن السبب والنتيجة واحدة، لا يمكن الفصل بينهما، أما ردة فعل جسد الأنثى، فإنه محكوم بفعل الفقر والعوّز، ومن ثم الانتقام الذي هو راسب نفسي عند المرأة. فجريمة الزنا الأولى قادتها إلى تعدد نوع الجسد الذي مارست معه الفعل من أجل الكسب والاستحواذ، لقد سعى الكاتب بقوة نظرته الفاحصة للظاهرة من جهة، والضغط النفسي الذي يُعانيه جرّاء ثقل الظاهرة عليه من جهة أُخرى، دفعته إلى الولوج إلى المفاصل الدقيقة في ظاهرة الانحراف، سواء عند الرجل أو المرأة. فالرجل هنا مسلوب الارادة، بفعل شبقه أو شذوذه الجنسي، والمرأة مدفوعة برؤى الانتقام من الجسد الذكوري والحط من قيمته، لأنها بالمفهوم الأنثروبولوجي والاقتصادي المنتج للسياسي مركز إنتاج الانحراف بالظواهر الاجتماعية. فالمؤلف رسم بدقة وحرفية عالية مسار الأفعال من التراكمي إلى النوّعي مستخدماً في هذا العيّنات وتصاعد الأفعال بحبكة. بمعنى جاهد على أن يجري تحبيكاً على مسار جزء من المجتمع، لكنه الجزء الأهم والمؤثر في بناء الحياة. فكل الأطراف والبنى في البلد مؤدية إلى تراكم الخطأ، فكيف بها لا تنتج الخطأ الأكبر.
إن النص وكما نراه وظّف الجسد الأنثوي لأسباب سياسية تتضمن رؤى اقتصادية واجتماعية ونفسية .
وبهذا استطاع المؤلف أن يوازن بين أطراف المعادلة من أجل تماسك النص وترّاص وحداته، كبناء الشخصية، وسريان الزمن، وحبكة الحوار وجلال الوصف، على الرغم من أنه لم يتخلص من تأثيرات المناخ والفضاء العام، فقد تماهت شخصيته بين أن يكون كاتبا خارج النص، وساردا من خارجه، يمنح السارد كيفية ذاتية. أرى أن الأمر اختلط لدى الكاتب، فجاءت خطاباته متوّترة، تُمثل وجهة نظر المؤلف لا الشخصية، وهي مسألة معقدة في السرد العراقي حصراً، حيث تطغي الأنا من خارج النص على الأنا في داخله، فتُملي عليه وظائف لا تتكافأ مع وجوده المادي والمعنوي. فعبارات مثل «أيها الرب الذي لا رب لي غيره. أنشر في رأسي بذور الإيمان.. أقم ميثاق سلام ووئام بين رأسي وما يحدث» على لسان (ساجدة) أمر مبالغ فيه قياسا إلى ما ينبغي أن تكون عليه الأنثى، رغم تحصيلها العلمي، نحن هنا نحتج بمنطق بناء النص فقط. ثم عبارة «أحس أن رجولته سحبها راس الثور القابع بين ساقيه وترك رأسه خاوياً»، كذلك «أطعمته اللهب فاحترق به. أرضعته النار فشهق من سعيرها، تركته يدخل دائرتي وعندما جن جنونه، أسرعت إلى تسديد رماحي إليه». كان يمكن أن تُكتب هذه العبارات بصيّغ أُخرى مناسبة للبناء السردي.
٭ كاتب عراقي