الجمال مسألة إرادة سياسية يا صديقي!

حجم الخط
0

تقول لي محافظة قصر سافر، في إحدى ضواحي باريس، إن سبب اختيار هذا القصر لإقامة حفل توقيع المعاهدة التي فرضها الحلفاء عام 1920 على ما تبقى من الدولة العثمانية ـ والتي رفضها الشعب التركي بقيادة مصطفى كمال، فكان ذلك منطلقا لصد عدوان جيوش الدول الأوروبية الغازية وبناء الدولة التركية الحديثة ـ هو أنه قصر جميل يحتوي أجمل بدائع فن الخزف الفرنسي العريق. بل إنه كانت في القاعة الرئيسية للقصر، الذي تحول إلى متحف تجلب إليه روائع هذا الفن من كل مصر وعصر، مزهرية بيضاء عظيمة أزيحت يوما أو بعض يوم لتمكين الساسة من مكان يجلسون فيه حول مائدة التفاوض ثم سرعان ما أعيدت إلى مكانها من السقف كأنها الثريا.
تبوح السيدة بخوفها على الحريات من هشاشة الديمقراطيات الغربية المسلمة أمرها لكل من يدعي حفظا لأمنها، ثم تؤكد، لتقطع بقية من شك كانت ما تزال تساورني، أن لا سبب سياسيا لاختيار هذا القصر لتوقيع المعاهدة التاريخية سوى فخر الفرنسيين بما لديهم من رونق الجمال.
وقد شهدت قبل أعوام حوارا في المركز الثقافي الفرنسي في لندن بين الروائي المغربي الطاهر بن جلون والمحرر الأدبي في جريدة الاندبندنت بويد تونكين كان مما روى فيه بن جلون أنه قال للكاتب الاسباني خورخي سمبرون، أثناء زيارة لاسبانيا بعيد وفاة الجنرال فرانكو وزوال الاستبداد، إنه قد بدا له أن النساء في اسبانيا صرن أكثر حسنا من ذي قبل، حيث كان الانطباع عنده أنهن دميمات في الواقع دمامتهن في أفلام لويس بونيويل. فما كان من سمبرون إلا أن هتف: إنها الحرية يا صديقي!
في المقابل قال لي المفكر الراحل أنور عبد الملك عام 2005 في القاهرة: لقد كانت هذه المدينة جميلة. ولا يمكنك أن تتخيل كم كانت المرأة المصرية جميلة حريصة على جمالها وأناقتها. ولكني محتار في أمر نساء مصر اليوم. لماذا كل هذه القتامة وكل هذا الإهمال؟ لكأن الواحدة منهن صارت تصر على القبح إصرارا. ولم أملك أن أجيب على غرار سمبرون: إنه انعدام الحرية يا صديقي! ولكن معنى ارتباط إرادة الجمال (أي الرغبة فيه والسعي إليه) بحرية الإرادة، سياسيا ووجوديا، قد تأكد لي عندما ذكّرني صديق من الأوّابين إلى المتون أن ابن عربي لما قدم دمشق ناظره فقهاؤها واختبروه في أي حديث يجمع الإسلام كله، أي ما هو في رأيه الحديث الجامع في بضع كلمات لرأس الحكمة وجوهر الدين، فأجاب بأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ‘إن الله جميل يحب الجمال!’
ولست أدري إن كان الفقهاء قد رضوا بهذا. ولكن الأكيد أن النبي كان ملتزما الجمال التزاما وأنه كان يطبق حديث ‘الله جميل’ منهجا في حياته العملية اليومية. وذلك بدليل قوله: ‘حبب إلي من دنياكم هذه الطيب والنساء، وكانت قرة عيني في الصلاة’. فثنّى على الجمال بالجمال، ثم جعل السعادة الآنية متعينة في متجدد الوصال. الوصال مع المطلق الرباني. ذلك أن المرأة هي الكائن الجمالي بامتياز.
هي جوهر جمال الطبيعة، وهي جوهر جمال الثقافة. أما العطر فهو الجمال المطلق بلا تعيين. ولكنه يصير، على ما يتسع له من أوجه الاستثمار الجمالي الرجالي، محض رمز معطوفا على تفاصيل عنوان. رمز خالص للمرأة بإطلاق، ولكنه في الآن ذاته عنوان أوحد دال على امرأة مفردة مستقلة بكيانها وعبيرها عن عشواء الملامح وازدحام الأسماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية