نيويورك-“القدس العربي”:
قد تكون الانتصارات العسكرية التي حققتها قوات الشرعية التي تمثلها حكومة الوفاق الليبية في المناطق الغربية ليست بداية النهاية للجنرال المتقاعد خليفة حفتر فحسب بل نهاية كذلك لتردد المجتمع الدولي ومحاولاته اليائسة طوال ست سنوات لتأهيل جنرال الحرب الذي لا يعرف إلا لغة القتل والدمار والتعذيب والإعدامات الميدانية.
كانت بيانات الأمم المتحدة في إدانة استهداف المدنيين في طرابلس أو مرزق أو مراكز إيواء المهاجرين أو النوادي والمطارات المدنية والموانئ تدين الجريمة دون ذكر المجرم. وفي نهاية البيان يدعو الأمين العام للأمم المتحدة أو مبعوثه الخاص جميع أطراف النزاع مراعاة وقف إطلاق النار واحترام القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي والعودة إلى العملية السياسية.
هذه اللغة بدأت تتغير قليلا في الأيام الأخيرة انطلاقا من البيان الواضح الذي حمل ما يسمى بـ “الجيش الوطني الليبي” مسؤولية استهداف مستشفى الخضراء الذي يعالج مصابي وباء كورونا إضافة إلى تعرض منطقة تاجوراء إلى قصف عنيف، واستهداف سيارة إسعاف في مصراتة بالقصف الذي أدى إلى مقتل عامل صحة. هذا الوضوح في تسمية المنتهك للقانون الدولي جاء متزامنا مع هزائم الجنرال. وكلما ضاقت الدوائر عليه وبدأت قواته تهرب أو تستسلم ومعين المرتزقة ينضب، سنرى مزيدا من الوضوح في الموقف الدولي في إدانته وإعادة التعامل معه على أنه مجرم حرب كما فعل المجتمع الدولي مع أمثاله من شارلز تايلور في ليبريا وفودي سنكوح في سيراليون وسلوبودان ميلوسوفيتش ورضوان كاراجك في يوغسلافيا السابقة.
حفتر ومحاربة الإرهاب
تركت سنوات حكم العقيد القذافي الإثنتين والأربعين من الحكم الفردي المطلق بلادا خاوية بلا مؤسسات ولا أحزاب ولا مجتمع مدني ولا جيش مهني مستبدلا كل ذلك بقوات أمن خاصة به منتقاة بطريقة قبلية تدين بالولاء المطلق له وتجتث كل معارض للحكم بتهمة الثورة المضادة وخيانة الثورة. بعد سقوط حكم العقيد في تشرين الأول/أكتوبر 2011 دلفت البلاد مبكرا نحو الفوضى وتشكلت الميليشات العديدة التي اقتطعت كل واحدة لنفسها منطقة نفوذ. وقفز من بين الركام بطريقة مشبوهة جنرال متقاعد قضى أكثر من 20 سنة في الولايات المتحدة، حيث تم تأهيله، وأعيد ليجمع بقايا وحدات عسكرية أطلق عليها اسم “الجيش الوطني الليبي” وفرض على برلمان طبرق تأهيله ورفع رتبته إلى مشير، وشبّك علاقات مع دول الجوار وخاصة مصر مبكرا لضمان وصول السلاح والمال. في تلك الفترة سيطرت على مدينة بنغازي جماعة “أنصار الشريعة” التي تم تصنيفها من قبل مجلس الأمن جماعة إرهابية وشكلت مجلس شورى للمدينة مدعومة من بعض الميليشيات المتطرفة والتي اتهمت بأنها كانت وراء مقتل السفير الأمريكي، كريستوفر ستيفنز، في 11 أيلول/سبتمر 2012.
وعندما أعلن عملية الكرامة في شباط/فبراير 2014 كان يبدو أنه ضمن تأييد مصر ودولة الإمارات العربية وفرنسا والولايات المتحدة وكل لأسبابه الخاصة، إلا أن القاسم المشترك كان التخلص من المجموعات المتطرفة والإرهابية في مدينتي بنغازي ودرنة. طالب حفتر الشعب الليبي أن ينتفض ضد المؤتمر الوطني العام المنتخب عام 2012 إلا أن دعوته لم تلق أي تجاوب. وأدان رئيس الوزراء المكلف آنذاك علي زيدان حركته بأنها انقلاب. كانت فرنسا تمده بالسلاح والمستشارين مع العلم أنها كانت تنفي ذلك إلى أن قتل ثلاثة منهم في سقوط طائرة مروحية في بنغازي بتاريخ 20 تموز/يوليو 2016 أي بعد تأسيس حكومة الوفاق. أما المساعدات المصرية الإماراتية فهي ليست سرا وقد ثبتتها تقارير فريق التحقيق المستقل المعني بتطبيق القرار 1970 (2011) لحظر توريد السلاح إلى ليبيا وملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في عهد القذافي وما بعده.
في تلك الفترة كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة، برناردينو ليون، بدأ يعمل على جمع شمل الليبيين الذين انقسموا بين برلمانين وحكومتين في كل من طرابلس وطبرق. وبعد مفاوضات مضنية جمعت أطياف الشعب الليبي من كل التوجهات والفصائل والقبائل توصل الليبيون تحت اشراف الأمم المتحدة إلى وثيقة “الاتفاق السياسي الليبي” المعروفة باسم وثيقة الصخيرات نسبة إلى المدينة المغربية التي وقعت فيها بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2015. قام مجلس الأمن بعدها باعتماد الوثيقة في القرار 2259 بالإجماع بتاريخ 23 /كانون الأول/ديسمبر أساسا لحل الصراع. والقرار يعتبر خريطة طريق لنقل البلاد نحو الدولة المدنية القائمة على التعددية وتناوب السلطة والانتخابات الحرة وإقرار دستور يستفتى عليه الشعب وصولا إلى الاستقرار. وتم بعد قرار مجلس الأمن إنشاء المجلس الرئاسي الليبي وحكومة الوفاق الوطني وتم اختيار فايز السراج رئيسا لحكومة الوفاق.
وتنص الفقرة الثالثة في القرار 2259 على ما يلي:
”يؤيد (مجلس الأمن) بيان روما الصادر بتاريخ 13 كانون الأول/ديسمبر2015 الذي ينادي بدعم حكومة الوفاق الوطني في ليبيا باعتباره الحكومة الشرعية الوحيدة لليبيا”. وظلت منظومة الأمم المتحدة تتعامل مع حكومة الوفاق الوطني على هذا الأساس على الأقل بشكل رسمي ومعلن.
وقد تابع أعمال ليون للعمل على تنفيذ إتفاقية المبعوثان الخاصان، الألماني مارتن كوبلر واللبناني غسان سلامة، غير أنهما استقالا بسبب الإحباط الذي سببه الانقسام الطولي والأفقي في المشهد الليبي المنقسم بين شرق يتحكم به الجنرال حفتر وغرب تديره حكومة الوفاق المنبثقة عن وثيقة الصخيرات.
القانون الدولي ومسلكيات الجنرال
بعد قيام مجلس النواب في طبرق بتأهيل حفتر وتعيينه قائدا عاما للجيش بتاريخ 2 آذار/مارس 2015 بدأ يوسع صلاحياته ويتخلص من معارضيه ويجمع الفصائل الصغيرة الموالية وظل يحاصر بنغازي إلى أن اقتحمها في بداية تموز/يوليو 2017. بعد ذلك زادت المراهنة عليه وأصبح يتلقى المزيد من الدعم العسكري والمالي والاستخباراتي. ودعي مرتين إلى موسكو عام 2016 ثم قامت باريس بدعوته في 22 من الشهر نفسه للقاء فايز السراج والمبعوث الخاص الجديد غسان سلامة. واعتبر هذا الاجتماع بمثابة اعتراف دولي بشرعية حفتر. وبعد ذلك أصبح التعاون مع حفتر علنا وبدأت لغة مجلس الأمن منذ ذلك الوقت تتغير وتساوي بين الطرفين. وكثرت اللقاءات الإقليمية والدولية حيث دعي بعدها إلى مؤتمر باليرمو في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 وحضره عدد من الرؤساء والرؤساء الإقليميين والدوليين. ثم دعي الإثنان، حفتر والسراج إلى أبو ظبي في 27 شباط/فبراير 2019. تلقى البيانات الختامية المنمقة ولا شيء يتغير على الأرض.
في تلك الأثناء وسع حفتر نفوذه بعد سقوط درنة في شباط/فبراير 2019 ثم توجه لتوسيع نفوذه في الجنوب الليبي بالمال والسلاح ولم يبق أمامه إلا منطقة الغرب والتي كان يظن أنه قادر على احتلالها خلال أيام. وكان الدعم اللوجستي بعد ما ظن حلفاؤه أنها انتصارت، في تزايد متواصل من العديد من الدول على رأسهم مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا.
وصل باللواء حفتر الغرور بعد السيطرة على مدينة سرت في بداية كانون الثاني/يناير 2019. ثم توجه إلى منطقة طرابلس وأعلن يوم 4 نيسان/أبريل أطلاق عملية تحرير طرابلس وأعطى لنفسه عدة أيام قائلا: “اليوم نعلن المعركة الحاسمة والتقدم نحو قلب العاصمة لتكسروا قيودها وتفكوا أسرها”.
كانت كل الأمرو تسير لصالح حفتر: دعم إقليمي ودولي، تأهيل سياسي تقوده فرنسا، دعم لوجستي من مصر ودولة الإمارات وغطاء سياسي في مجلس الأمن تقف وراءه روسيا والصين وموقف متذبذب من بريطانيا والولايات المتحدة. كانوا يراهنون عليه ويعرفون كيف يبتزون تنازلات من حفتر. صمد سكان طرابلس الذين يزيدون عن المليونين، تضامنوا وتعاونوا وقرروا أن يدافعوا عن مدينتهم، وهو ما لم يتوقعه من صمود وعزيمة وقابلية على التكيف، لكن حفتر كان يرد بالقصف على الأحياء الشعبية فكان يراهن أن الناس تحت الضغط سينقلبون ضد الوفاق، أصحاب السلطة، وهذا لم يحدث.
بعد سنة من حصار طرابلس وارتكاب العديد من جرائم الحرب، نستطيع أن نقول إنه عجز عن تحقيق أي تقدم. لكن مؤيديه لم يتخلوا عنه وظلوا يراهنون عليه في إنهاء حكومة الوفاق وتوحيد ليبيا كلها تحت قيادته.
الذي غير موازين القوى بشكل سريع هو توقيع حكومة الوفاق الوطني مع تركيا بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر مذكرتي تفاهم الأولى حول التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، والثانية حول السيادة على المناطق البحرية، بهدف “حماية حقوق البلدين النابعة من القانون الدولي والحفاظ على الأمن وحماية سيادة ليبيا، وتعزيز قدرات حكومة الوفاق في مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة، بالإضافة إلى تطوير منظومتي العمل الأمني والتدريب” كما جاء في البيان الصادر عن الاجتماع.
بعد ذلك تغيرت الصورة كليا فبدأ الكل يحاول أن يدفع الطرفين إلى التوصل لاتفاقية بهدف إقصاء تركيا. فقد دعي حفتر والسراج يوم 12 كانون الثاني/يناير إلى لقاء في موسكو لوقف إطلاق النار لكن حفتر لم يوقع، ودعي حفتر إلى اجتماع برلين مع 12 دولة للتوصل إلى اتفاقية واسعة لوقف إطلاق النار واستئناف العملية السياسية لكنه لم يحضر الاجتماع ولا تبنى الوثيقة الختامية. كما اعتمد مجلس الأمن القرار 2510 بتاريخ 12 شباط/فبراير الذي دعا لوقف إطلاق النار لكن حفتر لم يكترث. وظل يقصف مدينة طرابلس مستخدما سلاح الطيران والمدفعية وصواريخ غراد في قصف المدنيين والمنشآت المدنية في طرابلس وضواحيها، لكن السكان زاد التفافهم حول حكومة الوفاق. وبدأت قوات حكومة الوفاق تسترد المدن والبلدات من حفتر حتى باتت هزيمته قاب قوسين أو أدنى.
في هذه السنوات ارتكب حفتر العديد من جرائم الحرب كما ثبتت ذلك تقارير فريق الخبراء وآخرها يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. قصف الأحياء السكانية والمستشفيات والمطارات المدنية ومراكز إيواء المهاجرين والأعراس والمستشفيات وسيارات الإسعاف ونادي الفروسية وقطع الماء والكهرباء عن السكان وخطف الناشطين والمحامين وما زالت أخبار المحامية سهام سرقيوة مجهولة. مساعده الأيمن محمود الورفلي المتهم بارتكاب جرائم حرب من بينها الإعدام خارج نطاق القانون، سيطر على أموال البنك المركزي في مدنية بنغازي وأغلق موانئ تصدير النفط وقصف ميناء طرابلس وأحضر كل أنواع المرتزقة من السودان وتشاد وأوكرانيا وروسيا. ومراجعة لجداول فريق الخبراء تبثت كل هذه الحقائق. فكل هذا موثق في بيانات وتقارير ووثائق الأمم المتحدة. فالرجل لا يفهم إلا اللغة العسكرية وهو الذي قال عند احتلال درنة “لا تأخذوا سجناء. ليس لدينا سجون هنا. الميدان هو الميدان”. ومع هذا ظلت الأمم المتحدة وومثلوها الخاصون يحاولون أن يؤهلوا الجنرال ويمنحوه ثوبا دبلوماسيا غصبا عنه إلا أنه لم يتأهل، حتى الأمين العام غوتيريش وبعد هجومه على طرابلس بيومين وصل إلى مكانه وحاول أن يقنعه بوقف الهجوم إلا أنه فشل.
والآن يقف مؤيدو حفتر أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما الاستمرار في المراهنة عليه ودعمه بمزيد من السلاح والعتاد بعد توبيخه على الهزائم التي مني بها أو أن يرعووا ويتخلوا عنه ويختاروا أشخاصا يمثلون الشرق والجنوب لمفاوضات حقيقية تنهي حرب السنوات العجاف في ليبيا. العالم كله ينتظر ماذا سيحدث وكيف سيتصرف الجنرال العجوز والمراهنون عليه بعد هذه الهزائم.