الجنس استعمار والهوية لعنة: ألغاز الطيب صالح

حضرت عام 1998 مسرحية بعنوان «أسامة» كتبتها سارة صالح، ابنة الروائي السوداني الطيب صالح، وقام ببطولتها نديم صوالحة، الممثل السينمائي والمسرحي البريطاني/الأردني. كانت الفكرة مثيرة، فصوالحة ذو الأصول المشرقية المسيحية اختار شخصية أمير عربي مسلم أثناء الحروب الصليبية يظهر التفوق الحضاري للمسلمين آنذاك، لمقاربة وضع مناقض ومليء بأشكال العنصرية والكراهية والتوظيفات السياسية، فيما بدت سارة، التي هي مزيج سوداني، من جهة الأب وبريطاني، من جهة الأم، مزيج أيضا من خلطة بيولوجية وثقافية تحتضن، أدركت ذلك أم لم تدرك، الثيمات العديدة التي قدمتها رواية والدها الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال». لا أدري لماذا عدت إلى رواية الطيب صالح مجددا، ربما لفتح مقاربة تسمح باستكشاف الحدود الملتبسة، وربما غير الموجودة، بين الواقع والرواية، أو على الأقل، لفتح مقاربات أخرى لتحليل هذه المسألة غير أنني وجدت نفسي أتوه في متاهة. حين قرأت الرواية مجددا كانت لا تزال تحتفظ بطزاجتها، مثل أي أدب عظيم، كما تحتفظ بألغاز ومعميات تزداد تفلتا ومكرا كلما قرأتها أكثر. ألغاز كثيرة تلتف عليك حين تحاول فهم هذا البطل المسمى (للسخرية أو لأسباب أخرى) مصطفى سعيد، الذي لا تفعل قصته العجيبة المليئة بالرموز عن التفلت من المعنى المبسط، رغم قطبيتها الحادة جدا منذ انطلاق بطلها كالسهم من «الجنوب» الذي يعني في الرواية، القارة الإفريقية (وبلده الذي ولد فيه، السودان)، إلى «الشمال» الذي يعني أوروبا، وبريطانيا، التي تفتح له الأبواب وتحتضنه فيعاملها مثل غاز وفاتح.

حين قرأت«موسم الهجرة إلى الشمال» مجددا كانت لا تزال تحتفظ بطزاجتها، مثل أي أدب عظيم، كما تحتفظ بألغاز ومعميات تزداد تفلتا ومكرا كلما قرأتها أكثر.

يولد مصطفى في الخرطوم في اليوم الذي بدأت فيه القوات البريطانية بقيادة اللورد كتشنر هجومها على السودان، ويصبح أستاذا للاقتصاد في الرابعة والعشرين مصدرا الكتب حول «الاستعمار» و«الإمبريالية» بالتوازي مع موت النساء البريطانيات (فعليا لا مجازيا) من حبه، وتلاعبه بهن، وبالأحرى، من «استعماره» و«احتلاله» لهن، الذي يبدو وكأنه انتقام لاستعمار واحتلال بلاده (إلى أن نتعمق في الرواية وكاتبها أكثر)، وحين يجد المرأة التي تتمنع عليه (بالمعنى الحضاري والجنسي) يقتلها ليكتشف، لشدة أسفه، مزيدا من «التحضر» و«التسامح» و«التقبل» من عالم الاستعمار الأبيض لجرائم الغازي/الفحل الأسود خلال محاكمته، وليكتشف أيضاً أنه ما زال مغلوبا ومهزوما، فيعود ليخفي سره العظيم في قرية بعيدة على منحنى نهر النيل.
في متاهات «موسم الهجرة» غرف كثيرة، يظهر في إحداها ود الريس، المتباهي بفحولته (وحتى باغتصابه فتاة في صباه) كما لو كان نسخة فجة من مصطفى سعيد نفسه، مقررا، وهو الشيخ السبعيني، أن ينكح أرملة مصطفى سعيد، الثلاثينية، ليفاجأ برفضها، كما فوجئ مصطفى سعيد برفض جين موريس له، وسيتملكه هاجس سعيد نفسه فيقول «ستقبلني وأنفها صاغر»، وينتهي الأمر بكسره رمزيا، عبر قطع ذكره، وفعليا بقتله ثم انتحارها لندخل هنا في متاهة إضافية من متاهات الصالح، حيث تتناسل قصة سعيد مع جين موريس، وتتكرر بطريقة أخرى مع قصة زوجته مع ود الريس، فيتقارب بطريقة مقلوبة مع ود الريس (وحتى مع بنت مجذوب المرأة المزواجة التي تحضر مجالس الرجال لتتحدث بالجنس وتحلف بالطلاق وتخلع الأزواج واحدا بعد الآخر) فتتراكب الصراعات الثقافية والحضارية مع الصراع بين الذكورة والأنوثة.
يؤدي تفلت السر وانكشافه خلال جلسة سكر لمصطفى سعيد مع راوي القصة الذي هو سوداني كان أيضا في بريطانيا لتحصيل الدكتوراه، إلى متاهة أخرى حين يقرر البطل أن «يهاجر» مرة أخرى إلى حتفه في ليلة يفيض فيها النيل تاركا للراوي رعاية زوجته وابنيه والإشراف على ما بقي من أملاكه، لكن معاني حياة وموت سعيد تظل تلاحق الراوي، وتلاحقنا نحن القراء إلى ما بعد انتهاء الرواية.
إحدى متاهات سعيد التي أود استكشافها حقا هي ما يتعلق بولدي مصطفى سعيد اللذين تركهما لينتحر، موصيا الراوي، قبل ذلك، بهما، محملا إياه أمانة، منع «جرثومة الرحيل» عندهما، كما لو أن السفر هو الذي سيضيعهما في تلك المتاهة التي ضاع فيها والدهما فأخذته إلى الجنس والجريمة والانتحار، وهي الحلول التي جربها للتعاطي مع ألغاز /جروح لا يمكن حلها أو علاجها. في لحظة يأس على زوجة مصطفى سعيد التي لم يستطع إنقاذها من الموت، تنتهي الرواية بالراوي وهو يلحق بركاب مصطفى سعيد إلى نهر النيل، وهذه المرة سيحاول العبور من جنوب النهر إلى شماله، وهو عبور رمزي كان من مفاعيله انتحار البطل، كما فعلت ثلاث من عاشقاته البريطانيات، وقتله الرابعة، ومقتل زوجته وقتلها «نظيره المحلي» ود الريس، لتنتهي الرواية بوقوف الراوي الشاهد للحكاية في منتصف النهر بين جنوبه وشماله وهو يصيح طالبا النجدة.

يميل القارئ عادة إلى التلصص على حيوات الروائيين من خلال رواياتهم وتخيل علاقات مباشرة بين السرد وصانعه، فيما تتجنب الحصافة النقدية خلق علاقة مباشرة بين الواقعي والمتخيل.

يحيلنا ذاك إلى «الواقع»، عبر تفكرنا بمصائر أولاد الطيب صالح أنفسهم، لنكتشف ربما صعوبة تفريق هذا الواقع عن الرواية. يقارب عمر راوي الحكاية عمر الطيب صالح، ويشبهه في الدراسة في بريطانيا، وربما في نمط الأفكار والآراء، ولكن التشابهات تتوقف هنا ليقترب ببعض الدرجات من شخصية مصطفى سعيد، فعلى عكس راوي الحكاية، أصبح الطيب صالح علماً كبيراً، وتزوج بريطانية وأنجب منها بناته، وإذا جاز القول إن شخصيات الروائي تحمل كثيرا أو قليلا من شخصيته أو آرائه، فإن ذلك ممكن في حالة صالح، رغم العنف الشديد الذي حباه لسعيد، والعادية والهدوء والرتابة التي حباها لراوي الحكاية، الأقرب إلى عمره.
سألت الزميل الروائي السوداني أمير تاج السر، وهو قريب للطيب صالح، عن أخبار سارة أو بنات الطيب صالح الأخريات فقال لي إنه لا يعرف أخبارهن. سألت بعض السودانيين الناشطين في فضاء الجالية فقالوا إنهن منقطعات عن شؤونها وشؤون السودانيين عموما، وإنهن منهمكات في حيواتهن البريطانية، وربما انتهت علاقتهن بالسودان، كجغرافيا إن لم تكن كثقافة، بعد وفاة صالح، وبذلك طبع موضوع «موسم الهجرة إلى الشمال» بميسمه العميق، لا شخصيات الرواية وحسب، بل سلالة الطيب صالح أيضا، وكما استمد السرد معناه وتفاصيله وخيالاته من الواقع، فكذلك فاضت الحكاية على واقع صالح وسلالته البيولوجية كما فاض نهر النيل فأغرق مصطفى سعيد وأوقف الراوي ممزقا بين الجنوب والشمال.
غير أن الطيب صالح أسعفني حين وجدت مقابلة رائعة معه في «الأهرام» نشرت بعد وفاته بقرابة شهر في صحيفة «الأهرام» حين أكد أن سارة، ابنته الثانية (بعد زينب وقبل سميرة)، هي التي ورثت شغفه بالأدب وكانت أطروحتها للدكتوراه في جامعة أكسفورد عن اسامة بن منقذ، وهذا الموضوع، كان طريقها للبحث في أسئلة الهوية التي حيرت أبيها وكانت أحد أسباب تأليف رواياته.
يميل القارئ عادة إلى التلصص على حيوات الروائيين من خلال رواياتهم وتخيل علاقات مباشرة بين السرد وصانعه، فيما تتجنب الحصافة النقدية خلق علاقة مباشرة بين الواقعي والمتخيل. لكن جزءا من مطامح هذه المقالة تتبع المآل العجيب للنص في علاقته بالواقع في سبيل تلمس معنى أعمق تخلقه هذه المآلات الغريبة التي لعب النص والحياة دوريهما في ترتيبها، بحيث يمكننا خلق نص جديد من امتزاج الحكاية بصانعها، وامتداد معاني الشخصيات إلى خارجها، بحيث نستطيع أن نتخيل، عبر ما حصل لصالح وعائلته، ما كان يمكن أن يحصل لولدي سعيد، أو للراوي، أو لأولاده.
في مقابلته (ربما الأخيرة) تلك تسأل الصحافية المصرية سناء البيسي الروائي السوداني إن كان مصطفى سعيد هو الطيب صالح فأجاب: «لا يزعجني الخلط بيني وبين مصطفى بطل روايتي، أو أنها جزء من سيرتي الذاتية… يبدو لي أحـــيانا أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب»، وبذلك يؤكد الطيب، بصراحة، المتاهة التي تربط الحياة بالواقع.

٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    عزيزي حسام
    أبدعت في عرض الرواية التي اراها شخصيا انها من روائع الادب العربي وكنت قد قابلت الطيب صالح في مراكش في ندوة ادبية حول المعتمد بن عباد في منتصف تسعينيات القرن الماضي كان متجهما وقليل الكلام وللصدف انه عندما رحل حضرت مراسم دفنه في الخرطوم ايضا رحمه الله

    1. يقول حسام الدين محمد:

      عزيزي “سوري”. لا أختلف معك في كون “موسم الهجرة” من روائع الأدب العربي (والعالمي) وهذا هو سبب إمكان قراءتها مجددا بعين مختلفة وبمنظور جديد. استغرب أنه كان قليل الكلام ومتجهما فهاتان لم تكونا من صفاته على ما كرر من عرفوه ولعله كان مزعوجا من امر أو أن الحياة غيرته.

  2. يقول صوت من مراكش:

    من اكثر الاعمال رسوخا في ذاكرتي كقارئ شغوف بالفن الروائي

    اذكر انه كان عمري لايتعدى ستة عشرة سنة عندما تعرفت على

    مصطفى سعيد الاكذوبة- كما جاء موصوفا في احدى فصول موسم

    الهجرة الى الشمال – و التي ابدع الطيب صالح في تخليدها لكل الازمان

    تحياتي

  3. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة
    أمّا بعد…
    أستاذنا(حسام الديم محمد) إنّ رائعة أمير الرواية العربية(الطيب صالح)(موسم الهجرة إلى الشمال)قد تجعل منك عبدا للقراءة على الرغم من أنّك غير مدمن للقراءة فكلّما قرأتها مرّة تدفعك لقراءتها مرة ثانية وثالثة ومرد ذلك كلما فرغت من قراءة تظهر لك تجليات جديدة مبهرة من الأولى فتعتبر رواية(_موسم الهجرة إلى الشمال) بمثابة صور من حياة القارئ وأحداثه التي عاشها أو التي يتصورها فلم يستطع التخلص من حركاتها ودوران أحداثها وشخوصها فإنّها رواية أدبية ليست كباقي الروايات وأحداث ليست كباقي الأحداث ومتعة أدبية ليست كباقي المتعات…هذا من جهة ومن أخرى قد زدتها أستاذ(حسام) رونقة وجمالية اخرى بإكتشافك لبعض الزوايا المظللة فيها ليتعرف عليها محبي (الطيب صالح وروايته موسم الهجرة إلى الشمال)
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

إشترك في قائمتنا البريدية