ما الذي جعل «الجنس» يصير سردية مُلازِمة للألعاب الأولمبية، المنظّمة حاليا في باريس؟
هل اختُزلت عبقرية الإبداع البشري في الغريزة الجنسية، واستُبعدتْ كل القيم الجمالية والفكرية والروحية التي تعزّز المشترَك الإنساني، وتجمع بين الناس، عوض أن تفرّق بينهم؟
منذ انطلاق هذه الألعاب الرياضية، بدا واضحا للعالم أن مُنظّمي «الأولمبياد» مشغولون برسالة واحدة لا غير: الانتصار للمثلية الجنسية، ومحاولة التطبيع مع السلوكات التي تُجافي الطبيعة البشرية وحتى الحيوانية، تحت شعار «المثلية» ومرادفاتها مزركشة الألوان.
ووصلت بهم «العزة بالإثم» إلى حد الإساءة إلى نبي الله، عيسى عليه السلام، ووصمه بسِمة الشذوذ الجنسي.
وهُمْ، بوعي أو بدون وعي، يستحضرون فيلما برتغاليا بُثّ على منصة «نتفليكس» منذ سنوات، يُصوّر ـ هو الآخر ـ السيد المسيح شخصًا مثلي الجنس، كما يسيء إلى أمّه مريم العذراء. ومن بين ردود الفعل التي رصدتها قناة «بي بي سي» العربية حينئذ، ما كتبه «إدواردو»، نجل الرئيس البرازيلي السابق «بولسونارو»، على منصة «تويتر»: «نؤيد حرية التعبير، ولكن هل تستحق مهاجمة مُعتقد 86 في المائة من السكان؟»
السؤال نفسه تكرّر مع ما حصل أثناء افتتاح «أولمبياد» باريس، إذ استغرب مراقبون سعي أقلّية فرض سلوكها الغرائزي المنفِّر على ملايير البشر من المسيحيين والمسلمين الذين يُمثّلون أغلب سكان العالم. فلا غرابة أن كانت أصوات إسلامية كثيرة مُسارعة إلى إدانة ذلك المشهد المستهجَن، المسيء إلى السيد المسيح، بجانب إدانات أخرى صدرت عن مراجع مسيحية متعددة.
تدنيس المقدس
بعيدًا عن الخلفيات الأخلاقية للموضوع، وما يتّصل به من أسئلة حول حدود الفن والإبداع وحرية التعبير، لا يمكن استبعاد السياق السياسي الحالي الذي يشهده العالم، والمتمثل في العدوان الصهيوني المتواصل على غزة وأهاليها. فالمسيح عليه السلام، كما يعلم الجميع، وُلد على أرض فلسطينية، وبالضبط في بيت لحم. وبالتالي، فالإساءة إليه، عبر صورة جنسية مبتذلة، تُعَدّ محاولة خبيثة لتسفيه تلك الأرض، وذلك بجعل المقدّس مدنَّسًا. بعبارة أخرى، إن تدنيس المسيح بوصم الشذوذ هو في الوقت نفسه تدنيس للأرض التي وُلد فيها، وهي أيضا أرض الكثير من الأنبياء والرسل.
ألا يمكن تلمّس بصمات للماسونية، حليفة الصهيونية، في حفل افتتاح «أولمبياد» باريس؟ بما أنه يسيء للمسيح ومسقط رأسه، كما يسعى إلى شغل العالم عمّا يجري في فلسطين من حرب إبادة بشعة، من خلال التركيز على مشهد ساخر من «العشاء الأخير» للمسيح عليه السلام، وما خلّفه المشهد نفسه من نقاشات وردود فعل.
وعلى سبيل التأمل، إذا كانت الألعاب الأولمبية نشأت في أثينا على خلفية أساطير إغريقية منذ أكثر من 700 سنة قبل ميلاد المسيح، فإنها في دورة باريس 2024 حاولت الانتصار إلى «أسطورة» جديدة، مفادها هدم الصورة الطبيعية للجنس البشري وإشاعة الانحلال القِيَمي، وكذلك القتل الرمزي للمقدّس الروحي في مشهد «بارودي»، يحاكي بشكل جنسي ساخر لوحة «العشاء الأخير» للرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دا فينشي.
بين السياسة والرياضة
ضمن هذه السردية الجنسية التي وسمت الألعاب الأولمبية في باريس، بل ووصمتها كذلك بالعار، تندرج الحملة المحمومة على البطلة الرياضية الجزائرية إيمان خليف المشارِكة في منافسات الملاكمة، سعيًا إلى إحباطها وثنيها عن الفوز بالبطولة بعد وصولها إلى نهائي «الأولمبياد». فخلال كل مراحل المسابقة، لاحقتها النقاشات والتعليقات المشككة في هويتها الجنسية، زاعمة بأنها ليست أنثى.
ولم يقتصر الهجوم على البطلة الجزائرية على الرياضيين والإعلاميين فحسب، بل شمل حتى بعض الشخصيات المعروفة، من بينهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الطامع في كرسي الزعامة مجددا، والملياردير إيلون ماسك، ورئيس الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والروائية البريطانية جي كي رولينغ مؤلفة سلسلة «هاري بوتر»…
في المقابل، جعل الجزائريون من مختلف الأطياف، سياسيين وإعلاميين وفنانين وغيرهم، مُواطنتهم إيمان خليف قضيتهم المركزية التي لا تتقدمها حاليا أي قضية أخرى، من أجل رد الاعتبار والكرامة للبطلة المذكورة، وطغى الموضوع حتى على الاستعدادات الجارية للانتخابات الرئاسية المقبلة، وصار كل مَن يشير باللمز والهمز إلى البطلة الجزائرية المذكورة مهددا بالملاحقة القضائية.
واللافت للانتباه أنه حتى روسيا، حليفة الجزائر، جعلت «أنوثة» الآنسة إيمان محل شك وريبة، لدرجة أن المسألة وصلت إلى مناقشات مجلس الأمن، حيث ذهب ممثل روسيا إلى القول إن المعنية بالضجة هي «رجل»، بناء على استنتاجات «الاتحاد الدولي للملاكمة». وربط مشاركتها في «أولمبياد» باريس بخطة الغرب لتشجيع «مجتمع الميم»، وهو مصطلح يشير إلى «مثليي الجنس ومزدوجي التوجه الجنسي وللمتحولين جنسيا».
بيد أن ممثل الجزائر لم يتأخر في الرد، مستهجنا الخلط بين السياسة والرياضة في كلمة المندوب الروسي، فقال: «إن الملاكمة الشجاعة إيمان خليف وُلدت أنثى، عاشت طفولتها بنتا يافعة، ومارست الرياضة كامرأة بكامل المقاييس». وتابع مؤكدا: «لا يوجد أدنى شك حول ذلك إلاّ مَن له أجندة سياسية لا ندري مقاصدها». ثم أحال الجميع على اللجنة الأولمبية الدولية التي حسمت في مشاركة البطلة إيمان خليف؛ وفق إفادة صحيفة «القدس العربي».
وإذا عرف السبب بطل العجب، فصاحب الهجوم الشرس، «الاتحاد الدولي للملاكمة» ممول من قبل شركة نفط روسية، ومقرب من القيادة الروسية، بحسب مصادر إعلامية. لكن الجزائر لا تعترف به؛ فهل ستكون قضية التشكيك في أنوثة إيمان خليف، القشة التي ستقصم ظهر البعير في العلاقات الروسية الجزائرية؟
وهل ما زال البعض، انطلاقا من نظرة استعلائية مقيتة، يستكثر على أبناء وبنات بلدان إفريقية وعربية ومغاربية التفوق في مجالات عديدة على المستوى العالمي، ومن ثم يسعون إلى إلصاق نقائص بهم، بهدف إحباطهم وتشويه صورهم؟
الرد على النشاز
دائمًا في سياق «أولمبياد» باريس، حيث تداولت قنوات عالمية ومنصات التواصل الاجتماعي مشهد فيديو يظهر فيه الأولمبي الصيني الشاب ليو يوشن يتقدم للزواج من البطلة هوانغ يا تشيونغ بعد فوزها بالميدالية الذهبية.
وبجانب الطابع الرومانسي البديع لذلك المشهد الواقعي، فمن الواضح أنه رسالة غير مباشرة لمنظمي الألعاب الأولمبية الذين سعوا للترويج «للمثلية الجنسية»، مفادها: «هذه هي الحالة الطبيعية للعلاقات الإنسانية. وغيرها نشاز».
كاتب من المغرب