يرى منظرو «المحور» أن سعيد جليلي هو حجر الرحى الرئاسي المنظور لإيران القادمة، فالفارق الكبير في حصيلة الأرقام بينه وبين قاليباف يشي بأنه يُشكِّل الرهان الاستراتيجي من الدولة العميقة.
شهدت الجمهورية الإسلامية نهار الجمعة 28 حزيران/يونيو انتخابات رئاسية مبكرة لاختيار الرئيس التاسع للجمهورية خلفاً لإبراهيم رئيسي الذي قضى في حادث تحطم مروحية في 19 أيار/مايو الماضي قبل سنة من انتهاء فترته الرئاسية الأولى، حيث كان متوقعاً أن يفوز بولاية ثانية.
كان يوم الانتخاب طويلاً جداً. بدأ التصويت الثامنة صباحاً، وكان يُفترض أن ينتهي السادسة مساءً، لكن لجنة الانتخابات مدَّدت موعد إغلاق الصناديق مرَّات عدة حتى منتصف الليل. ما أظهرته نسبة المشاركة، التي بلغت نحو 40 في المئة، أن تمديد فتح صناديق الاقتراع كان بفعل ضعف الإقبال لا كثافته.
القيادة الإيرانية عَـوَّلتْ على رفع منسوب المشاركة. كُثر من المراقبين عزوا تمرير مجلس صيانة الدستور لترشيح مسعود بزشكيان – والذي سبق أن رُفض ترشُّحه في انتخابات 2021 – إلى رغبة القيادة الإيرانية في أن يدفع وجود مرشح غير محسوب على التيار المحافظ وموسوم بالاعتدال إلى انخراط التيار الإصلاحي وجمهوره في الاستحقاق، ما يُعطي حيوية تنافسية للانتخابات، تُفضي إلى عدم مقاطعة الإصلاحيين وإلى رفع نسبة المشاركة. ووفق الإحصاءات الرسمية، فإن نسبة الإقبال في الانتخابات الرئاسية عام 2021 بلغت 48 في المئة، فيما لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية في آذار/مارس الماضي 42 في المئة.
وقد بدا جلياً أن نسبة المشاركة تُشكِّل هاجساً لدى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، والذي وصف مشاركة الناس، عند الإدلاء بصوته مع افتتاح صناديق الاقتراع، بأنها حاجة ملحّة للنظام، قائلاً: إنّ «المشاركة الكبيرة للشعب الإيراني في الانتخابات مطلوبة لإثبات صحة وسلامة الجمهورية الإسلامية» وإنّ «عزّة البلاد وماء وجهها يتوقّفان على حضور الشعب. فمستقبل البلاد سيتحدّد من خلال اختيار الشعب».
وعليه، لا يبدو أن المرشد علي خامنئي قد نجح في تحقيق ما طمح إليه من «المشاركة القصوى» في امتحان تكريس شرعية النظام، على أقله في انتخابات 28 حزيران/يونيو، والتي كان واضحاً أن جولة ثانية (جولة إعادة) ستتبعها يوم الجمعة المقبل في 5 تمور/يوليو، نظراً إلى استحالة حصول أي مرشح على 50 في المئة زائد واحد مع وجود ثلاثة مرشحين أقوياء في الجولة الأولى هم: المرشّحان من التيار المحافظ المتشدّد رئيس البرلمان والقائد السابق بالحرس الثوري محمد باقر قاليباف، والمفاوض النووي السابق وممثل المرشد في المجلس القومي الأعلى سعيد جليلي، والمرشح الثالث المعتدل مسعود بزشكيان الذي لقي دعماً من بعض الشخصيات الإصلاحية. كان متوقعاً ألا يحصل على نسبة أصوات مُعتبرَة المرشح الرابع في السباق الرئاسي مصطفى بور محمدي المنتمي إلى التيار المحافظ، ورجل الدين الوحيد بين المرشحين الستة الذين وافق مجلس صيانة الدستور على أهليتهم، ومن ضمنهم أمير حسين قاضي زاده هاشمي وعلي رضا زاكاني اللذان انسحبا قبل موعد الانتخابات وينتميان بدورهما إلى التيار المحافظ.
ورغم تأييد رموز قيادية من التيار الإصلاحي لبزشكيان والإدلاء بأصواتهم على غرار محمد خاتمي ومهدي كروبي، فإن زعيمَي «الحركة الخضراء» حسين موسوي وزهرا رهنورد، الموجودَين في الإقامة الجبرية، رفضا طلب رجال الأمن إحضار صندوق الاقتراع إلى المنزل، ولم يُشاركا في الانتخابات، بحسب ابنتهما زهرا موسوي (على منصة «إكس»). كما شكَّل الرئيس السابق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف جزءاً من المعركة الانتخابية لبزشكيان.
بلغ عدد الناخبين الذين يحق لهم الاقتراع 61 مليون ناخب، موزَّعين على 58 ألفاً و640 مركزاً انتخابياً داخل إيران، و340 مركزاً خارجها في أكثر من 95 دولة. الإيرانيون في الخارج شاركوا حسب القانون في الانتخابات الرئاسية من دون الانتخابات البرلمانية. ما عكسته صناديق الاقتراع في الخارج أن المشاركة كانت هزيلة، ولا سيما في الدول الغربية حيث الطابع الغالب هو لمعارضي النظام، فيما شارك في الانتخابات بنسبة أكبر الإيرانيون المؤيدون للنظام الموجودون في دول «المحور» حيث أذرع إيران العسكرية، من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن وغيرها من الدول ذات العلاقة الجيدة معها.
وبحسب إعلان رئيس لجنة الانتخابات محسن إسلامي، فقد بلغ إجمالي عدد الأصوات التي تمَّ الإدلاء بها في صناديق الاقتراع نحو 24 مليوناً (ما نسبته 40 في المئة من الأصوات). توزّعت على كلٍ من: مسعود بزشكيان 10.415.991 صوت، وسعيد جليلي 9.473.298 صوت، ومحمد باقر قاليباف 3.383.340 صوت، ومصطفى بور محمدي 206.397 صوت. وستكون الجولة الثانية بين المرشَّحَين الأوَّلَين من حيث النتائج: بزشكيان وجليلي يوم الجمعة المقبل.
في قراءة أولية لنتائج الانتخابات، يرى منظرو «المحور» أن سعيد جليلي هو حجر الرحى الرئاسي المنظور لإيران القادمة، فالفارق الكبير في حصيلة الأرقام بينه وبين قاليباف يشي بأنه يُشكِّل الرهان الاستراتيجي من الدولة العميقة لرئاسة الجمهورية للسنوات الأربع المقبلة. وهذا من شأنه أن يرسم معالم السياسات والخيارات التي خطّها المرشد والدولة العميقة لما هو آت في المرحلة المقبلة، والاتجاه الذي ستنحو إليه في إدارة التحديات التي ستواجهها مع انخراطها في حرب غزة و«جبهات المشاغلة» من خلال أذرعها حتى الآن، والترتيبات المستقبلية في المنطقة، ومع تزايد التقديرات لمجيء الرئيس الجمهوري دونالد ترامب من جديد إلى البيت الأبيض في ظل ضعف أداء الرئيس الديموقراطي جو بايدن، والذي كشفت عنه بقوة المناظرة الأولى المبكرة التي أُجريت قبل أيام.
في الجولة الأولى، حسمت الدولة العميقة خيارها بين جليلي وقاليباف. الرجلان هما رجلا النظام والحرس الثوري، وهما يحظيان بالثقة ذاتها على مستوى الخيارات الاستراتيجية العامة، لكن أولويات القيادة الإيرانية العليا هي التي فعلت فعلها في تحديد الاختيار بين الرجلين المحافظين، بحسب منظري «المحور» الذين يطرحون تساؤلاً جوهرياً عما إذا كان خيار جليلي، المناهض للاتفاق النووي، يعني أن الاتجاه هو نحو «إيران على نموذج كوريا الشمالية»؟
ستكثر القراءات حول مشهد المواجهة بين جليلي، المرشح المحافظ المدعوم من الجناح الراديكالي في التيار الأصولي، وبزشكيان المرشح المعتدل المدعوم من بعض الشخصيات الإصلاحية. لا وهم في واقع الأمر أن بزشكيان لا يُشكِّل تعبيراً عميقاً للتيار الإصلاحي بالبعد الذي يُطالب به هذا التيار من ضرورات تحديث المفاهيم في الجمهورية الإسلامية وإدخال تعديلات جوهرية على آليات الحكم. الرجل، وهو طبيب جرَّاح ونائب لدورات عدة وشغل موقع وزير الصحة في عهد الرئيس خاتمي، حرص على التأكيد – في أكثر من مناسبة – أنه ملتزم بتطبيق السياسات العامة للدولة التي حدَّدها المرشد الأعلى، وإن كان قال إن إدارته «ستكون تتمة لإدارة خاتمي الإصلاحية» وأنه مع اعتماد سياسة خارجية «متزنة» في العلاقات مع قوى الشرق والغرب، ومن الضروري إجراء محادثات لرفع العقوبات.
ويرى مراقبون أن المواجهة بين جليلي وبزشكيان ستعطي مصداقية للانتخابات الراهنة أكثر مما حملته انتخابات إبراهيم رئيسي في العام 2021 حيث جرى حينها تهميش الإصلاحيين والمعتدلين ورُفضت ترشيحاتهم بما فيه ترشيح بزشكيان نفسه.
على أن السؤال – المفتاح لانتخابات 5 تموز/يوليو سيتمحور حول ما إذا كانت ستمثل عنصر إغراء للإصلاحيين بالمعنى الأشمل للدخول إلى المعركة وتبنّي بزشكيان كخيار، أم أن الانقسام في التقييم لديهم بين نظرة حماسية تدفع بقوة لتبنّي بزشكيان، ونظرة متوجسة تعتبر أن المشاركة هي كمين من المؤسسة الحاكمة بحثاً عن شرعية الانتخابات؟ ذلك أنه على أساس هذين الخيارين داخل التيار الإصلاحي، يمكن الحكم على صورة المواجهة في الجولة الثانية من الانتخابات التي ستأتي بالمرشح الذي يفوز بالنسبة الأعلى من التصويت.