الجيش المصري من الجبهة الى الرئاسة

من منا لم يزل يذكر كيف صحونا قبل اربعين عاما على اخبار لم نصدقها للوهلة الاولى، انتقلنا فورا لاذاعة مونت كارلو واذاعة لندن حتى لا نقع في نفس الفخ الذى نصبته لنا اذاعة صوت العرب من قبل. الجيش المصري يعبر قناة السويس ويدمر خط بارليف الشهير بمناعته، والجنود يرفعون الاعلام المصرية على الضفة الشرقية للقناة. في البداية اعتقدنا انها فرقعات اعلامية ولم نكن قد نسينا بعد هزيمة حزيران/يونيو قبلها بست وسبعين شهرا. لم تكن اوهاما ولا احلاما، بل حقيقة ساطعة لا تغيب عن الذاكرة رغم مرور اربعين عاما عليها.
انتهى النصر بسرعة الى وقف لاطلاق النار، وقيل الكثير عن الثغرة ودهاليزها السياسية والعسكرية (وسجن الفريق الشاذلي رحمه الله لأنه كشف الحقيقة). وقد يكشف الارشيف الامريكي بعد عشر سنوات ما نخّمن انه حصل، وان المعركة ربما كانت بالاصل من اجل الجلوس الى طاولة المفاوضات مع اسرائيل. ولكن هذا موضوع اخر الى وقت آخر، ثم نعقت علينا معاهدة كامب ديفيد، وكانت هذه آخر المعارك التي يخوضها الجيش المصري، وتعرفون البقية.
الجيوش خلقت لتحارب لا لتعبث بالامور السياسية، وربما شكّل ابعاد الجيوش عن ساحات الوغى سنين كثيرة او عقودا خطرا ما على طريقة تفكير القادة العسكريين وجاهزيتهم واولوياتهم وتحليلهم للامور.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تكل الولايات المتحدة عن الدخول في حروب، الواحدة تلو الاخرى، الحرب الكورية ثم فيتنام ثم حرب تحرير الكويت ثم غزو افغانستان فالعراق. الاسرائيليون فعلوا الشيء ذاته، بعد تشرين الاول/اكتوبر خاضوا حروبا متكررة على الجبهتين اللبنانية والغزية. اما الجيش المصري، فأمره مختلف، الجبهة المصرية الاسرائيلية بقيت هادئة، صامتة كصمت المقابر (وكاد هدير هذا الصمت يفقدنا نعمة السمع)، الى درجة الملل والكآبة، لا يعكر صفوها مكدر.
كان لا بد للقيادة السياسية المصرية بعد السادات، المتمثلة في الرئيس السابق مبارك وحلقة رجال الاعمال حوله من ان يستفيدوا من هذا الجيش (بعدما أصبح بلا وظيفة محددة) وامكانياته في الحياة المدنية. عّين الضباط والمتقاعدون محافظين، واصبح العسكريون يديرون المشاريع الاقتصادية والاستثمارية، ابتداء من مصانع المعكرونة و’الشيبس’ الى الفنادق والقرى والمنتجعات السياحية. لم ينافسهم في هذا المجال المواطن المصري (الغلبان) بل رجال الشرطة والمخابرات، وادي النيل كما يسميهم المؤرخ المصري الواسع الاطلاع ، وخفيف الظل، الدكتور محمد الجوادي.
الفريق عبد الفتاح السيسي يبحث مع كبار العسكريين سبل كبح جماح الاعلاميين المصريين من ان يتعرضوا للجيش من قريب او بعيد، كما في الشريط المصور الذي بثته الجزيرة، كخبر اول في نشراتها المتعددة. الطريف في الحوار ان المتكلم يقول ان المتحكمين في الاعلام المصري لا يتجاوزون الـ25، (صدق ونكاد نعدهم واحدا واحدا)، ويقترح استمالتهم للجيش بالترغيب والترهيب (او على الاقل استمالة عشرين بالمئة منهم). الفريق السيسي، البريء جدا، يفهم الترغيب، ولكن الترهيب ازاي، يريد توضيحا اكثر من المتكلم، معقول؟ الضابط كان محافظا جدا بنسبة العشرين بالمئة. الخمسة والعشرون اعلاميا كلهم الان يطبلون ويزمرون للجيش، صم بكم عمي، ولم ندر بعد هل استمالهم بالترغيب ام بالترهيب؟
دعونا نعود الى لب الموضوع، الجيش المصري، لا أحد ينكر، منخرط ومتغلغل في الحياة المدنية المصرية حتى اذنيه، في الاقتصاد والسياحة والزراعة والنقل والنفط والاعلام طبعا، حتى ان المصريين يتندرون بانك لو فتحت حنفية في القاهرة يمكن ينزلك منها ضابط جيش، او شرطة او مخابرات، فتوخ الحذر ايها المواطن. الفريق السيسي ليس محتاجا لان يجمع توقيعات او اموالا للقيام بحملة اعلامية للرئاسة، فعليه ان يستريح وهناك من سيقوم بهذه المهمة الشاقة عنه. الحملات لا تتوقف، تسلم ايدك، وكمّل جميلك، وحملة الخمسين مليون توقيع (مثل فبركة الـ35 مليون مصري في ساحة التحرير يوم الثلاثين من يونيو، التي اخرجها المبدع خالد يوسف والتي انطلت على الكثيرين من دون ان يتساءل واحد صاح كيف للميدان ان يستوعب حتى عشر هذا العدد؟) وربما الآتي، حملة لا فض فوك، او لم تحمل امرأة بمثلك، والقائد الملهم، وملناش غيرك يا ريس، وحنموت من غيرك يا سيسي ……. الى اخر المعزوفات الشجية.
الجيش المصري الان ترك جبهة سيناء الآمنة منذ اربعة عقود، ونقل متاريسه ودفاعاته الى ميدان التحرير والنهضة ورابعة وجامعتي القاهرة وعين شمس، يعتقد قادته الان ان العدو هناك ويجب مجابهته بقوة وحزم، كيف لا وقد نال السيسي التفويض من الشعب للتصدي للارهاب. وقد استطاع استمالة الاعلام ويبدو ان سياسة الترغيب والترهيب لم تؤت اكلها مع الشعب الرافض للانقلاب.
شيخ الازهر، يقول ان محاولة تعكير صفو الاحتفال بنصر اكتوبر لا يتماشى مع تعاليم الاسلام، وكاد ان يخرجهم من الدين، ولا ادري هل اتى بهذه الفتوى من القرآن ام السنة ام الاجماع ام القياس؟ ومستشار الرئيس المؤقت احمد المسلماني (كاتب خطابات مبارك سابقا) يقول ان الذين سيخرجون ضد الجيش يوم 6 اكتوبر هم عملاء لا ناشطين، وأحسبه بعدها سيوجه لهم تهمة الخيانة العظمى! تحشيد ضد الحريات لترويع الناس من ان يعارضوا الانقلاب.
في الذكرى الاربعين لحرب 6 اكتوبر، يحلم السيسي ان يسجل نصرا آخر، ولكن، هذه المرة على… العدو الجديد.. الشعب المصري! نصلي الا تكون هذه ‘الاربعين’ ذكرى أليمة لشهداء جدد من المصريين، ما زالوا يتطلعون الى الحرية، حرية من نوع خاص، حرية حقيقية بعيدة عن حراب الجيش الذي ضل طريقه الى ثكناته هناك في مواجهة بئر السبع وايلات بدلا من القاهرة والاسكندرية واسيوط.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية