يعتبر تأثير دخول ثقافة مطاعم الوجبات السريعة إلى المجتمعات العربية من الموضوعات التي لم تحظ بالعناية الكافية، حيث يتعامل أغلب الناس ببساطة مع الموضوع، معتبرين أن هذه المطاعم ما هي إلا مجرد أماكن جديدة لتقديم الطعام.
لكنّ باحثي علوم الاجتماع، خاصة نقاد النيوليبرالية في كثير من المجتمعات التي وجدت نفسها في مواجهة طريقة حياة وغذاء غريبة، كانوا ينظرون للأمر بعين مختلفة. كان هذا النوع من المطاعم بالنسبة إليهم أكثر من مجرد خيار غذائي، فقد كانوا يرون أنه يندرج تحت إطار تكريس النمط الموحد للسلوك الإنساني، أو ما كانت تسميه مدرسة فرانكفورت الفلسفية «بتشيؤ» الإنسان، أي تحوله إلى ترس وأداة في يد مجتمع بيروقراطي يجبره على أن يفقد إنسانيته، وأن يحول عقله إلى «عقل أداتي» خالٍ من الإبداع، وهو ما يخلق في نهاية المطاف مجموعة من الأشخاص المتماثلين، أو بحسب التسمية التي أطلقها الفيلسوف الأمريكي ألماني الأصل هيربرت ميركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد.
يمكن أن نضرب هنا مثلاً بمقاهي «ستاربكس» الشهيرة، فهذه السلسلة من المقاهي التي تنتشر في عدد كبير من أركان العالم مقدمة القهوة بطريقة حداثية، لكن متماثلة في جميع محلاتها التجارية، صارت تنافس في كثير من البلدان الثقافات المحلية. ستاربكس التي أصبحت مرغوبة بالنسبة للكثيرين، بسبب مذاقها الجديد وحجمها المختلف، وحرصها على تقديم خدمات جديدة كتوفير الإنترنت المجاني مثلاً، أصبحت هي البديل عن المقاهي التقليدية التي كان يجتمع حولها الناس. أكثر من ذلك فإن ستاربكس صارت الخيار الأفضل للزوار والسائحين، الذين عوضاً عن أن يقوموا بتذوق القهوة والمشروبات المحلية، والجلوس في أماكن تقليدية، أصبح كثير منهم يفضل أن يتناول المشروب الذي اعتاد عليه، والذي هو في متناول اليد في كل مكان.
استقبل بعض الناشطين السودانيين الإعلان عن قرب افتتاح فرع لمطعم كنتاكي في الخرطوم بتشكك، ومعتبرين أنه سيساهم في تكريس حالة التغريب والتذويب
محمد تركي الربيعو كان قد ناقش موضوع مقاهي ستاربكس في إحدى مقالاته، رابطاً إياها بمصير الطبقة الوسطى، استناداً إلى كتاب الباحثة الفرنسية إليزابيث لونغنيز الذي يفصح عنوانه عن مضمونه «أزمة الطبقة الوسطى في المشرق العربي»، كما استشهد الربيعو، بحديث بيير بورديو عن «الانشقاق الطبقي»، وهو التعبير الذي استوحاه عالم الاجتماع الفرنسي من حديث كارل ماركس ورفيقه فريدريك إنجلز عن الطبقة المهيمنة على الثورة الفرنسية في كتابهما «الأيديولوجية الألمانية».
هل يمكن أن تقود هذه المطاعم والمقاهي الحداثية إلى انشقاق طبقي فعلاً؟ إن ذلك يعتمد على المكان بكل تأكيد، ففي مجتمعات الرفاه والوفرة، حيث يكون كل شيء في متناول اليد، قد لا يكون أثر ذلك واقعاً، لكن في العالم الثالث، حيث يدلل التردد على مثل هذه الأماكن على الانتماء إلى المجتمع البورجوازي فإن الأمر يبدو مختلفاً.
ربما تكون الخرطوم مثالاً جيداً هنا، فهذه المدينة التي تشهد أزمة اقتصادية خانقة، وندرة في السلع الأساسية، تستعد للانضمام للمدن والحواضر التي تحوي فروعاً لمطاعم الوجبات السريعة ذات النمط الأمريكي. عدّ البعض هذا نوعاً من الانفتاح الذي يبشّر ببدء علاقة جديدة مع العالم، لكن المشكلة كانت أن مثل هذه المطاعم ليست متاحة لجميع الناس، فسعر القطعة الواحدة من «بيتزا هت» قد يساوي سعر وجبة شعبية كافية لجميع أفراد العائلة، وهي المفارقة التي يتوقع أن تتكرر مع وجبات ماكدونالدز وكنتاكي وغيرهما.
قدم الربيعو في مقاله « مقاهي ستاربكس وعربات فول» قراءة موازية لما سبق أن وضعته الهولندية أندي كونينغ تحت عنوان «كافيه لاتيه وسلطة القيصر في مقاهي القاهرة الراقية». كانت كونينغ تسعى إلى تحليل ظاهرة المقاهي الجديدة في المدينة، وكيف أن هذه المقاهي أزاحت «القهاوي» التقليدية بالتوازي مع العملية الجارية لإزاحة ما كان معروفاً بالطبقة الوسطى، من قبل طبقة جديدة أطلقت عليها اسم «الطبقة الوسطى العليا». تتميز هذه المطاعم والمشارب الجديدة باستخدام اللغة الأجنبية (كافيه لاتيه) والأسماء الغامضة التي قد لا يدرك الكثيرون أصلها، بدلاً مما كان معتاداً ومفهوماً، وبهذا يتكون نوع من الحجز الثقافي بين من يفهم هذه الأسماء الجديدة، وهو دليل زائف على الرقي، ومن هو جاهل بها.
التقسيم الطبقي قد لا يبدو مقنعاً، خاصة أن هذه الطبقات، إن وجدت، فهي في تحرك مستمر، ففي بعض عقود الرفاه يمكن ملاحظة أن أعضاء من المستويات الفقيرة، أو الدنيا، انتقلوا إلى مستويات أعلى فتغيرت نظرتهم للمجتمع وطريقة استهلاكهم، وفقاً لهذا الترقي، بالمقابل، تقود الأزمات الاقتصادية وما يرتبط بها من تضخم وعجز إلى انزياح من نوع آخر، يدفع أفراداً من الطبقات العليا بالتدريج، وأحياناً بسرعة، إلى مراتب دنيا تجعلهم يعيدون تعريف احتياجاتهم وأولوياتهم، وهو ما سيساهم في تحويل بعض ما كان ضرورياً بالنسبة إليهم وأمراً لا غنى عنه، إلى مجرد كماليات.
أفراد الطبقات الدنيا سوف يتعاملون مع هذه المطاعم الجديدة بشكل مختلف، حيث سيرى الأفراد الأصيلون في هذه الطبقة أن الذهاب إلى تلك الأماكن غير مهم، أو قد يكون ممكناً في مرة منفردة كنوع من التغيير المشابه للخروج في نزهة مكلفة، في حين سيقود الحنين الأعداد الكبيرة من الواصلين حديثاً إلى هذه الطبقة، من الذين تمت إزاحتهم قسراً من الطبقات العليا إلى التردد على هذه المطاعم بين الحين والحين، لإثبات أنهم ما يزالون جزءاً من ذلك العالم البهيج. البعض، وهذا من الأمور العابرة للطبقات، حاول أن يضفي على حالة الفرح السطحية بافتتاح هذه المطاعم بعداً سياسياً، ورغم أنه لا توجد دلائل واضحة على أي ارتباط سياسي، إلا أن أولئك كانوا يعتبرون أن في وجود مثل هذه الأماكن ذات الطابع الأمريكي مؤشراً على قرب رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب، وعلى أن إلغاء العقوبات الأمريكية المفروضة منذ سنوات صار أمراً وشيكاً. لامتلاك نظرة أكثر عمقاً حول العلاقة بين الطعام والهوية ربما يجب الاطلاع على كتاب سامي زبيدة وريتشارد تابر «مذاق الزعتر: ثقافات الطهي في الشرق الأوسط» الذي يأخذ القارئ في سياحة ثقافية وتاريخية إلى ما وراء الأطباق الشهيرة في المنطقة مثبتاً كيف كانت هذه الأطباق التي نتعامل معها بعفوية اليوم نتاجاً لكثير من عمليات التلاقح والامتزاج الحضاري.
في السودان استقبلت مجموعة من الشباب الناشطين، الإعلان عن قرب افتتاح فرع لمطعم كنتاكي في الخرطوم بتشكك، معتبرين أن ذلك لن يساهم بأي شكل في خلق ترقٍ حضاري، بقدر ما سوف يساهم في تكريس حالة التغريب والتذويب، التي تتهدد الهوية السودانية. كرد فعل أعلنت هذه المجموعة عن قرب افتتاح مطعمها الخاص بالاشتراك مع مجموعة مفتوحة من المساهمين. المطعم الذي أطلق عليه اسم «أبجيقة» (كلمة شبابية بمعنى الإنسان البسيط) سوف يكون أقرب للتعاونية التي لا تهدف للربح. سيقدم هذا المطعم الوجبات الشعبية والأصيلة حصراً، وسيكون موقعه قريباً أو مقابلاً لمطعم كنتاكي. لا يتوقع أن يشكّل مشروع «أبجيقة» أي تهديد تجاري جاد للمطاعم الحداثية، لأنه ببساطة يخاطب في إعلاناته جمهوراً مختلفاً، لكن السؤال عما إذا كنا نشهد «انشقاقاً طبقياً» داخل الطبقة الوسطى، أو عما إذا كانت هناك بالفعل طبقة وسطى قابلة للانشقاق ما يزال مطروحاً.
*كاتب سوداني
شكراً أخي محمد الفاتح. المقال جميل ومهم أيضاً لأن الطعام ومحلات الأطعمة والمشروبات تراث ثقافي ويرتبط اليوم بالسياسة والحياة الإجتماعية وتطور المتجمع.
في الحقيقة لا أعرف لماذا يلهث العرب خلف الأطعمة الغربية وأطعمتنا ذات مذاق أفضل لكن تحضيرها, والحق يقال, يحتاج إلى مجهود أكبر وربما هذا يشكل أحد الأسباب, وربما طريقة التسويق تلعب أيضاً دوراً مهما في هذا السياق.
كذلك أتعجب من شهرة محلات ستربكس للمشربات, مع أن أسعارها عالية نسبياً ومذاق ماتقدمه ليس خاصاً بها بل معروف لدى أغلب المحلات التي تقدم المشروبات الساخنة. هل هو ياترى هذا الخداع بلإنتماء إلى طبقة المعاصرين والحداثيين, وأنا أعتبر نفسي منهم لكني أفضل القهوة المحضرّة على الطريقة العربية فمذاقها مع الهال فريد ولايقاوم!. أم أنها طريقة التسويق هي الأخرى والمرتبطة بالثقافة الأمريكية وهي التي تجذب الناس الى ستربكس وأمثالها من المحلات؟ أعتقد أن الجواب نعم, رغم أنه ربما يعني في نفس الوقت إقصاء الذات والعيش في فضاء الآخر.
فكيف الخروج من هذا المأزق أن تنتمي إلى المعصر وتحافظ على ذاتك وثقافتك, دون تعسف لأحدها عل الآخر. إنه موضوع يقع في قلب التطور الذي يحصل في العالم العربي اليوم. أتمنى التوفيق والنجاح لمطعم أبجيقة.
حتي الاكل والشراب قابل للانشقاق سبحان الله تشبيه بمصطلح غريب شوية