الخرطوم وأديس أبابا: تقاطعات الأزمات

طرأت الأزمة السياسية الإثيوبية في وقت شديد الحساسية بالنسبة للسودان، حيث كان نظام ما بعد البشير مزدوج الرأس بين المدنيين والعسكريين، ما يزال يعاني من مشكلة تباين وجهات النظر بين مكوناته حول قضايا أساسية، كطريقة توزيع السلطة.
كان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قريباً من ذلك كله، فقد تابع تشكل ذلك النظام منذ المفاوضات الأولى بين المدنيين، الذين تحدثت باسمهم «قوى الحرية والتغيير» والعسكريين، كما لعب أدواراً مهمة من أجل تيسير عملية التفاوض، وصولًا إلى تحقيق اتفاق مرضٍ للطرفين.
كان آبي قد أصبح شخصية دولية مرموقة، بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام، وبدا وهو يعمل وسيطا بين الفرقاء السودانيين كمبعوثٍ للعناية الدولية، التي كانت تراقب الوضع السوداني، وتحاول أن تسيطر على مآلاته. تدخُّل آبي ساهم في وضع الحدث السوداني ضمن السردية التي كان يحب الإعلام أن يتداولها: مدنيون مناضلون، مقابل جبروت عسكري. رغم انتشارها كانت تلك صورة زائفة، فالمدنيون لم يكونوا ممثلين محايدين للشعب، أو الثوار، بقدر ما كانوا ممثلين لأحزاب وكيانات، احتكرت الفعل السياسي، بدون أن تسمح لغيرها بالمشاركة.

المساندة السودانية المطلقة لآبي أحمد لها محاذير أخلاقية، فهي توحي وكأن الحق في المعارضة المسلحة مقصور على الحالة السودانية

من جانب آخر فإن الحديث عن المدنية والعسكرية يبدو هو الآخر خادعاً، فنظرة سريعة إلى طبيعة الوضع الراهن، وخرائط القوة والتأثير، يمكن أن تؤكد أن سودان ما بعد «الوثيقة الدستورية» أكثر عسكرية مما كان أيام نظام البشير، الذي كان المدنيون، بغض النظر عن خلفياتهم، يديرون فيه العلاقات الخارجية وأمور الاقتصاد والسياسة، الذي حدث هو أن المدنيين المنتمين لأحزاب فاقدة للجماهير، في غالبها، ارتضت بهذه القسمة التي تضفي على النظام صيغة مدنية محبوبة للداخل والخارج، من أجل التمتع بسلطة لم يكونوا ليحصلوا عليها في الظروف الطبيعية. هذا يفسر لماذا كان آبي أحمد أحد الآباء المؤسسين للوثيقة الحاكمة شخصية محبوبة لدى «الحاضنة الشعبية» للحكومة، التي ظلت تتغنى بحكمته في كل مناسبة، وهو ما استمر حتى إبان العدوان الأخير على الجيش السوداني، حيث بدا البعض وكأنه يلتمس الأعذار للجانب الإثيوبي. ظل دور آبي أحمد وعلاقته بالنظام الوليد ممتدة، كما ظل يلعب دور صاحب النية الطيبة، الذي يتدخل من أجل إصلاح الأعطاب بين المكونات المختلفة. المفاجأة التي كانت غير متوقعة تمثلت في أن من كان مكلفاً بحل الأزمة السودانية وقيادة البلاد نحو الأفق الديمقراطي، سرعان ما أصبح هو نفسه محاطاً بالمشاكل، فصار سلمه الداخلي يعاني من أزمة، بعد نشوب أكثر من معركة بين المكونات العرقية الإثيوبية المختلفة، كما بدأ خطابه بالتغير مع بروز أزمة إقليم التغراي، فلم يعد ذلك السياسي الذي يبشر بالسلام، بل القائد العسكري الذي يعبر عن استعداده لخوض حرب شاملة ضد المتمردين. لم يكن أحد يظن أن إصرار إقليم تغراي على عقد انتخاباته المحلية، في ظل التأجيل العام من قبل المركز، سوف يقود إلى الحرب، فإذا كانت انتخابات التغراي غير شرعية، فإن رئيس الوزراء هو نفسه غير شرعي بالنسبة للحزب الحاكم في الإقليم، الذي يرى أن آبي الذي أتى إلى
السلطة ضمن ظرف خاص، وبلا استحقاق انتخابي، غير جاد في تداول السلطة.
سرعان ما تحول النزاع إلى أزمة إقليمية لم يكن السودان المجاور قادرا على تجاهلها، فاستقرار الجارة الكبيرة مهم، الأمر الذي بدا ملحاً أكثر بعد أن بدأت أعداد اللاجئين العابرين للحدود السودانية بالتزايد.
الوساطة التي فكر السودان بالانخراط فيها لم تكن، كغيرها من الوساطات، تعني الحياد التام بين الأطراف المتخاصمة، فقد كانت تنطلق من مبدأ إثبات حق حكومة المركز الإثيوبية في إقرار ما تريده على المستوى الوطني، وإن كان النظام فيدرالياً.
رغم الانطلاق من هذا المبدأ، إلا أن آبي أحمد بدا رافضاً لأي تدخل خارجي، حتى من قبل المنظمات الإقليمية، التي تلعب فيها بلاده أدواراً مهمة كالاتحاد الافريقي.
رفض آبي أحمد أيضاً وساطة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، التي كانت تعني تدخل مجموعة «الإيقاد» التي يترأسها السودان حالياً، كما كانت تعني، بالنسبة للقيادة الإثيوبية، إهدار كثير من الوقت في المحادثات والجولات الدبلوماسية، وهو ما كان مرفوضاً بالنسبة لآبي، الذي اعتبر الأمر شأناً داخلياً محضاً، وهو يطلق على العملية العسكرية الموسعة اسم «إنفاذ القانون». هذا يفسر التنسيق الموازي الذي سعى إليه آبي مع رئيس المجلس السيادي، الذي يمثل القيادة العسكرية السودانية، فخلال زيارة سبقت بوقت قصير اندلاع الحرب، ركزت محادثات خاصة بين الجانبين على الاتفاق على قضايا أمنية، كموضوع التحكم في الحدود السودانية، بحيث لا تشكل معسكراً خلفياً للمتمردين التغراي أو طريقاً للإمداد.
بعد الإعلان عن حسم المعركة والسيطرة على عاصمة التغراي، وفرار قياداتهم، قام رئيس الوزراء السوداني بزيارة رسمية لأديس أبابا، تم الإعلان عن أنها ستكون ليومين، إلا أنه لم يبق سوى ساعات، قبل أن يعود مبرراً لذلك بأن مهمته أنجزت.
شرعية «إنفاذ القانون» وملاحقة المتمردين على الدولة، لاسيما لو كانوا مسلحين، أمر يحظى بالاتفاق بين القادة الدوليين، الذين يمنحون الدولة ما يسمى بحق احتكار القوة، لكن هذا الأمر يفرز تساؤلات مهمة في الحالة السودانية، التي ظلت تشهد تمردات مسلحة على مرّ العقود الأخيرة، بدءاً بتمرد الحركة الشعبية الذي قاد لانفصال الجنوب، ومروراً بالحركات المتوالدة التي شرعت في قتال الدولة في أكثر من مكان. في الحالة السودانية وبالإضافة إلى ما حدث عام 2005 من اعتراف بالحركة الشعبية لتحرير السودان، كحركة ذات مطالب مشروعة، وإن وصلت حد حق تقرير المصير، فإنه تم الاعتراف، بعد التغيير السياسي عام 2019 بجميع الحركات المسلحة، التي كانت تقاتل الجيش السوداني، بل تم إطلاق اسم «الكفاح المسلح» عليها لتحصل على شرعية التيارات والحركات السياسية المدنية ذاتها، التي كانت تسعى لتغيير النظام.
المشكلة تكمن في أن هذه القراءة تدفع منطقياً للتضامن مع المتمردين التغراي، فعلى الأقل في الحالة التغراوية، فإن قادة الإقليم لم يبادروا بالهجوم على الدولة المركزية ولم يسعوا لإسقاط آبي أحمد أو تغيير نظامه، بل كل ما فعلوه هو تمسكهم بقدر من الاستقلالية التي يتيحها لهم الدستور الفيدرالي، ثم محاولتهم الدفاع عن أنفسهم ضد حملة التأديب التي قادها آبي ضدهم. مساندة التغراي ربما تكون أمراً غير مقبول على المستوى الدولي، فلا يبدو أي نظام مستعداً لإضفاء الشرعية على المعارضين حينما يحملون سلاحاً، أو يستخدمون العنف في مواجهة السلطة (تبدو المعارضة السودانية لنظام البشير، التي كانت مدعومة إقليمياً وكأنها استثناء هنا). بالمقابل فإن المساندة السودانية المطلقة لآبي أحمد أيضاً لها محاذير أخلاقية، فهي توحي وكأن الحق في المعارضة المسلحة مقصور على الحالة السودانية. سؤال آخر يبرز هنا، فصحيح أنه تم توقيع اتفاق سلام مع عدد من قادة الحركات، الذين تم استيعابهم في النظام السياسي السوداني، ومنحهم وظائف قيادية، لكن ماذا عن الذين لم يوقعوا بعد؟ هم الآن ملتزمون بخفض التصعيد، لكن إذا ما فقدوا الأمل في النظام الجديد وقرروا معاودة الهجوم على الدولة، فكيف سيتم تقبل ذلك؟ وهل سيحتفظون بوصفهم كحركات «كفاح مسلح»؟
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية