تشيع أفكار سلبية عن أدبنا العربي بين الفينة والأخرى، منها أنه مقطوع الجذور عن قديمه، وأنه في أغلبه غير إنساني وأنه ثانوي بالقياس إلى ركب الأدب العالمي ولا يمكن أن تكون فيه نظريات، ومن غير الممكن له أن يتطور مستقبلا، بل (لن يتسنى إنقاذ الأدب العربي إلا بالإقبال على الأدب الأوروبي والانصهار فيه). والغريب أن تصدر هذه الأفكار من لدن أدباء أو نقاد لهم باع أدبي ومعرفي ويشكلون حلقة وصل بين الأدبين العربي والغربي، بما لهم من صلات ببعض المؤسسات الأكاديمية الغربية، إما كخبراء مستشارين أو باحثين متخصصين، أو أساتذة مدرسين، أو أدباء ومترجمين. وهو ما يعطي للأفكار التي يطلقونها وزنا خاصا فتشيع بسرعة ويكون لها تأثير سلبي يمس صلب الحركة الأدبية العربية وعلاقتها بحركة النقد العالمية.
ولأن الأدب صورة من صور الحياة العربية، يغدو أي حديث عن هذا الأدب غير منعزل عن صور الحياة الأخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تستحكم عليها التبعية بالعموم استحكاما تاما. وما يميز الصورة المرسومة لأدبنا أنها معتادة لا تظهر حقيقته، ولا تكشف عن هويته وتاريخه وإنجازاته، فهي مبنية على فكرة القطيعة أو التقاطع بين داخله/ المحلي وخارجه/ الكوني، وأن الهوة عميقة ما بين التراث الأدبي والأدب المعاصر، ومن ثم تكون فكرة حاجة أدبنا إلى الاتباع والتقليد ملحة وضرورية كي يطور نفسه!
ولا شك في أن أي صورة يتخالف باطنها مع ظاهرها أو يتقاطع حاضرها مع ماضيها، هو دليل تخلخلها وعدم تراصها، من هنا يغدو مهما إعطاء أدبنا العربي صورته الحقيقية المعبرة عنه باطنا وظاهرا، ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالشروع في تغيير طرائق تفكيرنا ومعتادات نظرنا إلى هذا الأدب، عبر تجديد أدواتنا المنهجية ورؤانا النظرية، بحثا عما تدارى واندثر تحت خيمة ما اعتيد وترسخ، حتى بدا كأنه حقائق لا يمكن دحضها أو التشكيك فيها.
وقد سعى بعض المفكرين العرب ـ في إطار ما تخصصوا واهتموا بالبحث فيه ـ نحو تبني مشاريع تحديثية وتنويرية، استطاعت تغيير بعض ثوابت النظر الفكري تجاه الحياة العربية في صورها السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية، من قبيل مشروع نقد بنية العقل العربي لمحمد عابد الجابري، ومشروع نقد الجدلية الاجتماعية لأنور عبد الملك، ومشروع نقد التاريخ والأيديولوجيا لعبد الله العروي وسعيد علوش، ومشروع نقد المناهج المعاصرة لحسام الآلوسي، ومشروع نقد الفكر الاشتراكي لهادي العلوي ونقد الاستشراق لمهدي العامل وغير ذلك كثير.
أما على صعيد الأدب العربي فلم يشهد مشاريع نقدية تنويرية مماثلة، والسبب لا يعود إلى الانشداد المنهجي الحازم لمدارس ونظريات بعينها تجزئ الأدب وتوزعه هنا وهناك حسب، بل هو أيضا الافتقار الشديد إلى استراتيجيات العمل النقدي الجماعي، الأمر الذي يجعل الفردية وانفراط روح الفريق الواحد هي الطاغية على اشتغالاتنا النقدية، ولعل أوضح دليل على ذلك ما قدمه المتخصصون بالشعرية أو السردية العربية من أعمال بحثية وما اتبعوه من توجهات منهجية تتغاير عند كل واحد منهم، فتبعدهم من ثم عن الإحاطة والموسوعية. وقل مثل ذلك على صعيد ما يجري من استكتابات على هوامش مسابقات الأدب ومؤتمرات النقد.
وقد يقال إن الدراسات التفكيكية والثقافية، أو ما سمي بالنقد الثقافي أدت دورا في رسم صورة مخالفة لأدبنا العربي، بيد أن ما عنيت به هذه الدراسات هو خلخلة ثوابت النظر إلى هذا الأدب، وفق حواضن فكرية وأطروحات غربية ما بعد حداثية هي في الغالب أمريكية. وأغلب ما قامت به هذه الدراسات من خلخلة لم يتعد منطقة التشكيك في مسائل أدبية وتفكيك سلبيات الوعي الأدبي، كالفحولة والذكورية وتشظي الهوية وتضخم الذات، دون أن تقوم بإعادة توجيه تلقي الأدب العربي نحو مسارات جديدة ليس فيها اتباع ولا خضوع، ما جعل هذه الدراسات كسابقاتها الاستشراقية تعلي الآخر وتنتقص الذات. وهو ما يحول دون أي تجديد أو تطوير أو تبديل في الرؤية الفردية المستحكمة على وعينا النقدي. والمحصلة بقاء الأدب العربي بعيدا عن أي مشاريع تنويرية يمكنها أن تنبذ التبعية وتعطيه من ثم صورته الحقيقية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الوقوف عند بعض المشاريع التنويرية التي قدمها المفكرون العرب، قد يساعد في دعم مشاريعنا التحديثية أو يفيد في تطوير أدبنا ونقدنا، بعيدا عن التبعية والجمود والانغلاق. ومن هذه المشاريع التي تعزز موضوع الأقلمة السردية، مشروع الجدلية الاجتماعية للمفكر أنور عبد الملك، وفيه طرح (الخصوصية) مفهوما نقديا صالح عالميا للمجتمعات كافة، ويمكن توظيفه في شتى المجالات المجتمعية التي فيها مناطق مهيمنة وأخرى تابعة، من هنا تكون الخصوصية ضرورية كاستجابة لمقتضيات فردية ومجتمعية (وصولا إلى رؤى موحدة وفهم موحد لعالم). وأكثر المجتمعات شمولا بالخصوصية هي المجتمعات القومية غير الغربية كالصين وشبه القارة الهندية والعالم العربي والإسلامي وافريقيا والمناطق الداخلية في أمريكا اللاتينية وآسيا باستثناء اليابان.
ولأن بعض الباحثين يرون في مفهوم الخصوصية نقطة ضعف، وآخرين يرون فيها فكرا تآمريا، لذا راهن أنور عبد الملك على تقديم صورة عميقة تدلل على أهمية الخصوصية في تأكيد العالمية، متخذا منها طريقا لرصد الاستمرارية في المجتمع، ونبذا للنظر الجزئي للعالم وإعادة بناء الذات العربية بناء كليا من منطلق زماني، يدرس المجالات الحياتية دراسة كلية بعيدة عن الأيديولوجيا التي عادة ما تحاصر اجتهادات الباحثين عن الجذور التاريخية، مما يضطرهم إلى الاكتفاء بتنميط ما هو قائم والإمعان في تحليل أدق مكوناته. وهو أمر يتبدى بشكل دائم وآني مما يحول دون أن نرى القوة الكامنة في الخصوصية. وحدد أنور عبد الملك ما للخصوصية الاجتماعية من قوة جدلية يمكنها أن توصل إلى العالمية، من خلال جمعها بين دائرتين: الدائرة الذاتية، أي الفئات والطبقات المجتمعية، ثم الدائرة الخارجية، أي الأمم والثقافات والحضارات التي منها تتكون حركة العالم في عصرنا العولمي.
وما محلية الخصوصية سوى توكيد كلية الحياة المجتمعية على الصعيد الإقليمي. وإذا تحققت الإقليمية غدت للخصوصية قدرة على الانتقال بالكلية المجتمعية إلى العالمية عبر جدلية التفاعل الكوني، فتغدو الحياة في خصوصيتها جزءا فاعلا من الحياة العالمية، يقول أنور عبد الملك: (إن جدلية العلاقات بين العالمية والخصوصية، والكلية والإقليمية تواكب مرحلة جديدة ومعقدة من مراحل التطور التاريخي لمجتمعات هذا العالم). والباحث الذي يتمكن من دراسة هاتين السمتين (المحلية والإقليمية) سيتمكن من الإمساك بالخصوصية، ومن خلالها يتعرف إلى كلية الحياة وما فيها من أنظمة وسيرورات وامتدادات وانتقالات. وإذا وضعنا في بالنا ما يشهده العالم الغربي من أزمات في مقابل انبعاث قوى مهمة في الشرق، خاصة الصين واليابان، فإن إحساسنا سيتعمق ويتعزز بقوة الخصوصية وأهمية البحث فيها.
إن فاعلية الخصوصية وأهميتها في بناء هوية مجتمع قومي ما، هي في استمرارها التاريخي واستجابتها للمعاصرة، ولهذا تسعى المجتمعات المتقدمة إلى اتباع سياسات ثقافية تجانب الثبوت والنمطية والأوتوقراطية من أجل تأكيد عالميتها، التي من خلالها تتمكن من تحجيم خصوصيات آداب شبه القارة الهندية وأمريكا اللاتينية وعالمنا العربي، فلا يتاح لمحليها وإقليميها أن يكون عالميا أي أن لا يكون لهذه الآداب مكان في قلب العالم المتحضر. وبسبب ما للخصوصية من أبعاد مهمة وكبيرة، يحجم الغربيون كما يقول عبد الملك (عن تناول هذه الأبعاد. وحتى في حالة سعى بعضهم نحو تحليل نقدي لأسباب ومظاهر التمايز والاختلاف، فغالبا ما يتمسكون بالجانب الشكلي والبنائي، ذلك أن الاقتراب البديل وهو القائم على التحليل التاريخي والنقدي، لا يسمح باستبعاد العامل القومي الثقافي، أي بعد الخصوصية، خاصة في مرحلة بعث الظواهر ذات النوع القومي).
وإذا كانت الخصوصية الاجتماعية تكمن في العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية، فإن خصوصية الأدب العربي تكمن في مروياته التراثية ومنجزاته الشعرية والسردية الحديثة، التي فيها من المحلية ما يعطيها قوة إقليمية. وإذا ما فهمنا إقليمية هذه المرويات والمنجزات تمكنا من توجيه نظرنا المنهجي نحو ما تتمتع به من الكلية التي بارتكازنا النقدي عليها سنتوصل إلى العالمية. ولأن الخصوصية سمة أدبنا، تصبح جزءا مهما من دراسة الأقلمة التي هي طريق مهم لتوكيد ملكيتنا الفكرية لأدبنا القديم، ووفقها نؤقلم أدبنا الحديث في علاقته بالآداب المجاورة والبعيدة، فيأخذ من ثم موقعه الحقيقي بينها. وبذلك تتجاوز الأقلمة، في بحثها عن الخصوصية الأدبية، المناهج الأحادية والمقارنات الجزئية النمطية. فتنكشف نقاط القوة والانبعاث التي تجمع الخاص بالعام والاختلاف بالوحدة والتأصيل بالتقليد.
ولا تكون للخصوصية السردية أحقية بحثية ونحن لا نرى فيها أساسات التغيير والتحول والتطور، أما الإيمان بها كنواة عليها تنبني أساسات النظر الحقيقي إلى السرد، فإنه يجعل الخصوصية طريقا للأقلمة وبناء صورة كلية لأدبنا تنطلق من المحلي وتمر بالإقليمي، وتنتهي عند إرساء أسس مستقبل سردي يجمع الماضي بالحاضر، بكل ما في هذا الماضي والحاضر من أنظمة وأنساق وتقاليد وتاريخ. وإذا كانت المحلية والإقليمية هي دعائم الخصوصية التي عليها تقوم أقلمة السرد العربي، فإن الزمنية في فهم العمق التاريخي هو السند الذي يعطي للخصوصية سيرورة واستمرارية، فلا يعود للتجزئة والتقطيع أثر في تقليل أهمية خصوصيتنا الأدبية، ولا تتفتت الهوية وتصبح إشكالية على النطاقين المحلي والإقليمي، بل يصبح مجال الانتشار الأدبي والتوسع عبر الثقافي معضِدا للهوية التي بها نحافظ على الخصوصية كمقوم من مقومات العالمية وبكل ما نملكه فكريا من وسائل وأساليب وسياسات ثقافية، بعيدا عن عقد الشعور بالدونية والتبعية والاستهلاك والانغلاق والتعصب.
كاتبة عراقية