في مايو/أيار سنة 1943، أصدر غاستون باشلار كتابه الذائع الصيت «الهواء والأحلام» حيث جاء فيه: «دون مقترحات… نعيش صعود المتخيل». وبهذا أشار إلى تعدد الروافد العلمية والحقول الثقافية، التي ينهل منها مفهومُ المتخيل أهم مرجعياته وأسسَ ثوابته، وهو بذلك يتصدر كل الأنشطة الإنسانية على الإطلاق، معتمدا في ذلك على قانون العناصر الأربعة المعروفة؛ النار والماء والهواء والتراب، بحيث لا يزيغ متخيل المبدعين عنها. ففي البحث عن معنى المفهوم، في القواميس الفرنسية بالخصوص، نصادف رُزنامة من المتخيلات؛ المتخيل الرياضياتي (شابمان) والمتخيل الفلسفي (جون بول سارتر) والمتخيل النفسي (جاك لاكان) والمتخيل التاريخي (إميل زولا). في هذه المتخيلات، كلِّها، قواسمُ مشتركةٌ، تجعل منه طموحا، وقريبا من الواقع، وبالتالي يتحقق له هذا الصعود المنشود.
وبالموازاة مع ذلك، يعرّف رائد السيريالية في أوروبا الطبيب والفيلسوف أوندري بروتون المتخيل: «هو كل ما يطمح لأن يكون واقعيا» هذا الربط الذي اعتمده بروتون بين الواقع والمتخيل، يرمي به في أتون الخراب، الذي خلفته الإنسانيَّة جرَّاء حربها الكونية المدمرة؛ واعتبره كمتخيل جدير بالكشف، فضلا عن أنه ـ أي الخراب ـ من أحد أهم اهتمامات الفكر السيريالي في أوروبا، إذ ينظر إليه بروتون من زاوية الفوضى الباعثة لمتخيل المعنى. وبالفعل نجح بروتون في مسعاه، واكتسح فكره الساحة الأدبية، حيث ظهر العديد من الروايات، التي تلهج بمآس إنسانية، خلفتها الحرب المدمرة، وفي مقدمتها رواية «إمبراطورية الشمس» للبريطاني جيمس غرهام بالاد، الذي ترجمها إلى العربية الكاتب محمود مسعود. أمّا في العالم العربي مثلت رواية «الشراع والعاصفة» للروائي السوري حنا مينا مدخلا مهما لمتخيل الفوضى والدَّمار، الذي تأسس في اللاوعي الجمعي؛ فجاءت هذه الروايات، وغيرها، لتمتح من هذا المتخيل الخصب، الذي اعتبره السيرياليون تدميرا لتلك الصورة النمطية، الجاهزة للواقع.
أمَّا موريس بلانشو الفيلسوف والروائي والناقد الفرنسي، فيعتبر المتخيل قوة لنفي جذري للواقع. فهذا يعطي الشرعية، للارتماء في أحضان المحاكاة والتصوير الذهني، الذي أقرَّه أرسطو في كتابه «الجمهورية». فكلما تجاوزنا الواقع، في نظر بلانشو، فسحنا مجال الإبداع للاشتغال، وابتكار صور حية، فإذا كان المتخيل مشروطا بالمنطق، ومطابقة الواقع، وتمثيل النموذج، وتنحصر وظيفته في نقل موضوع خارجي يشكل إحالة مرجعية. ونجاح الصورة المتخيلة مرهون بمدى صدقها ووفائها وأمانتها في تصوير الموضوع المرجعي ونقله إلى الواقع، فإن الخيال هو ذاك التفاعل المبهم والغامض، الذي يجمع بين عناصر التخييل والواقع. فمزية اللغة الأدبية لا تكمن في نقل الوقائع حسب، إنما تعمل على استنفار المخيلة للوقوف على مشارف الحيرة والإبهام الناجم عن اتحاد عناصر واقعية وأخرى متخيلة. فهذا من سمة اللغة الواصفة، التي تسمو نحو القدرة الفعلية لخلق صور تتناغم ومخيلةَ القارئ. وسعيا وراء رفع الإبهام والغموض، الذي يلف هذه العلاقة، نقول: إننا ابتكرنا عالما خياليّا، لا هو بالواقع ولا هو مجرد عناصر التخييل.
فإدراك المتخيل هو جزء من إدراك التخييل، ويعمل هذا الأخير على تثبيت وامتلاك صورة منفلتة، لا نستطيع أن ندرك أبعادها ومعالمها، فتظل بذلك تعوم في المستحيل أو الخيالي، بما هو نفي لكل العناصر الواقعية في الخطاب. ومن أجل تسليط الضوء على الخيال، عمد حميد الحميداني في كتابه «الواقعي والخيالي» على فك شيفرات السطر الشعري الأول من قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، محددا فيها عناصرَ التخييل، إلى جانب عناصر الواقع، ومن ثم الكشف عن كنه الخيال، نتيجة تفاعل هذين العنصرين.
يقول الشاعر: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.
العناصر التي تنتمي إلى الواقع: العينان، غابتا النخيل، ساعة السَّحر، وهي عبارة عن صور ثابتة في الذهن. بينما عناصر التخييل تتمركز حول مكون بلاغي يفرزه السطر الشعري، والمتمثل أساسا في تشبيه غائم وآخر ظاهر؛ فالأول يكمن في العينين اللتين تكونان معقلي التيه والضياع، تماشيا مع حمولتنا المتخيلة والفكرية حول الغابة في الثقافة والأدب، أما الثاني فيتمثل في الخضرة والعطاء.
العناصر التي تنتمي إلى الواقع: العينان، غابتا النخيل، ساعة السَّحر، وهي عبارة عن صور ثابتة في الذهن. بينما عناصر التخييل تتمركز حول مكون بلاغي يفرزه السطر الشعري، والمتمثل أساسا في تشبيه غائم وآخر ظاهر؛ فالأول يكمن في العينين اللتين تكونان معقلي التيه والضياع، تماشيا مع حمولتنا المتخيلة والفكرية حول الغابة في الثقافة والأدب، أما الثاني فيتمثل في الخضرة والعطاء. فعند إلحاق الأول بالثاني تتحصل تلك الصورة غير المدركة إدراكا حسيّا، إلا أنها ذات أبعاد وصفات جماليَّة، نقول: إننا في حضرة الخيال. علاوة على ذلك فإن للتركيب اللغويِّ دورا أساسيّا في تزيين تلك الصورة غير المدركة؛ لأن اللغة، بجهازها الصِّواتي والموسيقي والعروضي، تهيمن على بنية الخيال، كما أشار إلى ذلك رولان بارت في كتابه «همس اللغة».
إننا، إذن، إزّاء رؤية مغايرة للمألوف، فإذا كان رولان بارت ينظر إلى اللغة الهامسة نظرة تتوقف، معها، دينامية توليد الصور الخيالية ذات البعد الجمالي؛ فإن غاستون باشلار جعل من الخيال مفجِّرا حقيقيا للصور الحسية، معتمدا في ذلك على المكون الاستعاري الذي يجدد اللغة، بما هو رابط بين معنيين مختلفين؛ أولهما حقيقي وثانيهما مجازي. فالخيال عند باشلار هو القدرة على إنتاج الصور، ومكمن هذا السيل العارم من الصور هو: التوليدية الاستعارية التي تحيا بها اللغة.
وفي السياق ذاته، يمكننا أن نجزم بأن اللغة هي المكون الوحيد، الذي بواسطته يستطيع الإنسان أن يخلق عالما من السعادة، يسميها هولدرلن «الحميمية الجوهرية». لكن في المقابل فهي الملكة الأخطر؛ لأنها ـ أقصد اللغة ـ تخفي وراءها عالما من الصور متعددة التأويلات والقراءات. ونتيجة لذلك، أصبح ذهن الإنسان شديد الارتباط بالتمثلات حول مواضيعَ تمكنه، في الأخير، من إيصال انفعالاته وتصوراته وقراراته ونبراته العاطفية المعبرة. وبهذا الخصوص، لا يتحقق كل ذلك إلا بواسطة اللغة الحمالة للصور الذهنية الماثلة في المتخيل البشري. فما العلاقة التي تربط بين القدرات التخييلية والمتخيلة؟ وهل يشتغل هذا الأخير بمؤثرات خارجية؟ أيمكن اعتبار الصورة مصدرا حيويّا لكل من الخيال والتخييل والمتخيل معا؟ أم هي مجرد حافز لاشتغال المجالين البلاغي والشعري فقط؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة، تقضي ملامسة المتخيل المادي، أي ربطه بالنسق العلائقي والحركي، ومن ثم فالمتخيل ما هو إلا شكل من أشكال تجلي الخيال. فهذا الربط، بين المتخيل وتمظهراته، في واقعه المادي المحسوس، هو الذي دفع جان بول سارتر إلى الاهتمام بضرورة الانتقال من موضوع الخيال إلى المتخيل، أي من المجرد إلى المحسوس، عبر كتابه الأول «الخيال» الذي أصدره سنة 1936، وفيه أحسَّ بمأزق البحث في موضوع جديد وجدير بالغزو حسب غاستون باشلار؛ بيْد أنه غير محدد وغير محسوس. وبعد أربع سنوات ـ أي سنة 1940 ـ استصدر كتابا آخرَ عنونه بـ» المتخيل « رغبة منه في تجاوز هذا المثبط المعرفي والفكري الحقيقي، الذي حال بين سارتر وبين البحث العلمي الرصين ؛ لتدارك الهفوة التي سقط فيها.
المتخيل يبتدئ بتحرر الذهن من الواقع المادي، بيد أن هذا التحرر ليس مطلقا وقطعيا؛ لأن العمليات الذهنية كلها تحتاج إلى مرجع مادي، لبناء تصورات تحفز الذاكرة على التذكر.
ولأن الخيال السارتري، نسبة إلى جون بول سارتر، يتفاعل مع الواقع العيني بطريقة سطحية، فإن المتخيل نفي للإدراك، وإسقاط لكل العلائق والروابط الخاصة والعامة، بمعنى آخر عندما تنزوي صورة شخص، مثلا، في ذهننا، تصبح بعد ذلك ضمن حصيلة المتخيل، نستحضرها ضمن شبكة من المظاهر، لا تتحقق إلا بإسقاط مجموعة من الخصائص الجوهرية، وتجاوز رساميل العلاقات التي أسسها داخل بيئته، بل التخلي عن كل ما له علاقة بكينونته ؛ لأن هذه العناصر كلَّها ليست ذات أهمية في عملية التصوير، وبالتالي فالمتخيل لا يأخذ منها إلا بعض الخصائص فقط، كي لا يسقط في التناقض بينه وبين الواقع المحسوس والمدرك.
نرى، في ضوء ما قدمناه، أن المتخيل يبتدئ بتحرر الذهن من الواقع المادي، بيد أن هذا التحرر ليس مطلقا وقطعيا؛ لأن العمليات الذهنية كلها تحتاج إلى مرجع مادي، لبناء تصورات تحفز الذاكرة على التذكر. وأعطى يوسف الإدريسي، في كتابه «الخيال والمتخيل» مثالا على ذلك بالمسرح، الذي هو بحاجة ماسة إلى الخشبة والممثلين، كعنصرين حقيقيين وواقعيين، ويقعان ضمن الإدراك المحسوس والمادي للجمهور، بما هو يتلقى بوعي خيالي أحداثا متخيلة، وبهذا فإدراك المتخيل مشروط بإدراك الموضوع الواقعي والمادي.
أمّا عبد الله إبراهيم الأكاديمي والأديب العراقي، فوضع في كتابه «المتخيل السردي» تصورا نظريا فريدا للمتخيل، إذ يقول في هذا الصدد: «إن اللغة الأدبية، في هذا الباب، لا تستعير مكونات الواقع الخارجي، إنها تعبر عن وعي ومعان ومدلولات ونظم فكرية شاملة، وتقوم بتخليق عوالم جديدة من تعالق الدالات اللغوية مع بعضها بعضا، ويقوم القارئ أو الناقد بكشف تلك العوالم الجديدة حال الانتهاء من قراءة النص، أو أثناء عملية القراءة، وعليه فإن تلك العوالم غير موجودة إلا في ذهن القارئ، وما بين يديه ما هو إلا سيل من الدالات المنضودة على الورق، وقد قام الكاتب بتنظيمها على نحو خاص، يوحي أو يقرب أو يسهل ولادة العالم المتخيل في ذهن القارئ، فالألفاظ مفاتيح يستعين بها القارئ لانتشاء مدينة العجيبة».
لعل هذه الفقرة المقتضبة، عند عبدالله إبراهيم، كافية لتكشف لنا عن الحوافز الجوهرية، التي تحرك المتخيل عند القارئ، والمحفزات الكفيلة لاشتغاله. وتأتي إلى جانب الألفاظ، حسب الكاتب دائما، الموسيقى والصور والأصوات والعلامات والرموز والإشارات، وكل ما يتصل به الإنسان في عالمه الخارجي، ويقع ضمن مجاله البصري.
وإذا أردنا أن نوجز، ما تقدم به عبدالله إبراهيم بشأن المتخيل، نقول إن الخطاب الأدبي هو الكفيل بتفعيل ملكة المتخيل عند القارئ، شأنه في ذلك شأن باقي المؤثرات، التي تقع ضمن واقعه الإدراكي. فمن بين أهم مستتبعات المتخيَّل والخيال والتخييل والمخيلة، نجد كلمة «صورة» ففي أصلها اللاتيني imago، التي تمّ نحتها لتصبح image، اختراقٌ باد وبادئ لجميع مشتقات الفعل الرباعي «خَيَّلَ» بما هو يأتي بمعنى: رسم صورة ظلّيّة، خيّل منظرا ريفيّا، صوّر خياله في النفس. ويتحدد مفهومها أيضا بالمحاكاة، فالخطاطة التالية، توضح العلاقة الموجودة بين كلمة صورة و المشتقات الأخرى:
تخيّل ــــــimaginer
مخيلة ــــــ imaginative
خيال ـــــ imagination
متخيل ـــــ imaginaire
لم تكن الصورة مجرد انعكاس للواقع، بل هي نفي له، واستجابة تلقائية لانفعالات ذهنية، وللمحفزات تعمل على تخصيب الخيال. فما يكون لها أن تـُوظف في الإبداع، إلا من أجل إثراء الخيال، وجعله خصيبا، قابلا للتفاعل مع باقي المحفزات الأخرى، وبالتالي يتحصَّل المتخيل. فهذا الأخير لا تقوم له قائمة دون صورة، تكون رابطة بين مثير ومستقبل. فالموسيقى، مثلا، كحدث مثير، تتم برمجتها على شكل صورة ذهنية، تحفز المتخيل، خصوصا إذا كانت هذه الرنة الموسيقية متعلقة بشيء ماضوي، نستحضره بواسطة الصورة. فدلالتها لا تكمن فقط في ربط الدال بالمدلول، وإنما هي نسق من المعاني البلاغية، فبلاغة الصورة، تعني عند رولان بارت، هي ترتيب الدلالات، بما هي خاضعة لقيود الرؤية. وبالعودة إلى العمل الذي يسهر عليه ذهن الإنسان، فإنه يتعامل مع الصور التي نصادفها في أنشطتنا اليومية، هي عبارة عن معان يتم تخزينها في باحة خاصة من الدماغ البشري، وبهذا يكون رولان قد فك شيفرات الخطاب الأدبي الفاقد للموضوعية، إلا أنه يحافظ على العلائق الترابطية الخاصة بالمعاني؛ لأن ـ في نظره ـ الإنسان كائنُ المعنى مثله مثل الصورة. بيـْد أن هذه الأخيرة، في تراث الأدب العربي، كما هو معروف، انفلتت من عقال هذا الترابط؛ صورة للشعر، وأخرى للخطاب. فالأولى كانت نتيجة المحاكاة الأرسطية، فنقول صوت القصيدة من صوت الطبيعة، وهنا تندرج المشابهة أي التشبيه والاستعارة والتمثيل مع الاحتفاظ بمستوى ثان للتخييل في الصورة التمثيلية وغير التمثيلية، أما الصورة الخطابيّة، فهي متعلقة بفنون القول والإقناع والمحاججة. وبهذا فإن الأمر يغدو طبيعيا أن تهيمن ثقافة الصورة البلاغية على الشعر العربي؛ لأنه ديوانُ العرب.
كاتب مغربي
أحسنت..مقال جميل جدا..