موضوع وإشكالية التواصل الإلكتروني والاجتماعي، تصاعدي وتزداد مخاطره الجانبية شيئا فشيئا، وبدون أن يشعر الكثيرون بجدية تلك المخاطر، إلى أن وصل إلى صورته الحالية المليئة بالتعقيدات والأخطار الكبيرة، وقلة الحيلة في مواجهتها. وتشير كل الدلائل إلى إمكانية نمو تلك المخاطر وأنواعها وأعداد المتعرضين لسوء استعمالها في المستقبل المنظور.
نشير إلى محنة تلك الظاهرة، بسبب انفجارات فضائح شبكات التواصل المتعاقبة في وجه العالم كله، والتي تتمثل في أشكال لا حصر لها، وترتبط بكل الرذائل التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل، وتمارسها قوى المال والإنتاج، والاستخبارات والسياسة والدين، والعديد من مكونات المجتمعات المدنية بشتى صنوفها.
نحن إذن أمام وباء اجتماعي ينتشر بسرعة كبيرة، ويبدل ملامحه وقواه بخطوات متسارعة، وكلما ظن أطباء الاجتماع أنهم توصلوا إلى إيجاد علاج لذلك الوباء، أو منهجية وقاية، انفجرت إشكالية جديدة بأبطال جدد، فخيال الإنسان وقدراته على إيجاد مسالك الشر ليس لهما حدود. وها أننا نقترب شيئا فشيئا من مجتمعات الأخ الكبير المهيمن على أجساد وقلوب وعقول الآخرين، والمراقب لكل حركة مجتمعية، والمختبئ وراء ألف قناع وقناع. فقد أصبحت وسائل التواصل الإلكتروني والاجتماعي قادرة على معرفة تفاصيل كل ما يفعله الإنسان إبان حياته اليومية: عمله، تنقلاته، أحاديثه، علاقاته العائلية الحميمة، أوقات راحته، قراءاته، الموسيقى التي يستمع لها.. وقريبا سيصبح بالإمكان معرفة أحلامه وخيالاته ورغباته الدفينة وحتى توقه الروحي، إذ سيكون بالإمكان عرض كل ما يجمع من معلومات عنه على وسائل الذكاء الاصطناعي القادرة على التحليل والتفكيك والاستنتاج، وبالتالي رسم صور مختلفة عنه لأصحاب الإعلان والتجارة والموضة، ولجهات الهيمنة السياسية والأمنية والثقافية. عند ذاك لن تكون هناك خصوصية ولا ذاتية فردية وغيرها من الملموس من الإنسان، ليحل محلها عالم المتخيل الذي لا طعم له ولا رائحة في عالم الواقع البشري. عند ذاك أيضا ستنتقل مصادر القوة والهيمنة والكلمة العليا من القيادات الكلاسيكية، مثل الملوك والرؤساء والسياسيين وقادة العسكر وأصحاب المال والوجاهة الاجتماعية، إلى القيادات الجديدة، من ملاك ومديري شركات التواصل الإلكتروني والاجتماعي. وحدهم سيديرون ويصنعون ويوجهون. هل هذه صورة تراجيدية مرعبة؟ نعم، إنها كذلك، ومن يهرب منها يهرب إلى عالم الأحلام والتمنيات والبراءة.
نحن أمام وباء اجتماعي ينتشر بسرعة كبيرة، ويبدل ملامحه وقواه بخطوات متسارعة
والسؤال المنطقي هو: متى سنرى جهدا دوليا مشتركا لدراسة الأمر، والوصول إلى ما هو صحيح وما هو متخيل، والاتفاق على خطوات عولمية لمواجهة هذا الأمر الجلل. فليس هذا أقل أهمية من مواضيع البيئة وحقوق الإنسان والتجارة والأسلحة الذرية، التي وضعت لها معايير عالمية، بالتزامات أخلاقية بسبب كونها مواضيع تمس البشرية جمعاء. ومثلما وجدت مؤسسات دولية، تابعة لهيئة الأمم أو مستقلة، لمتابعة تطورات وتنفيذ ما يخص تلك المواضيع الكبرى، فإنه آن الأوان أن تخطو البشرية جمعاء لمواجهة موضوع الساعة: التواصل الإلكتروني والاجتماعي. ما عادت المؤتمرات المتخصصة تكفي، وما عاد الأخصائيون وحدهم هم المسؤولون، بل أصبح ضروريا أن ينزل قادة السياسة والاقتصاد والثقافة الملتزمة بانسانيتها والدين المهدد في وجوده.. أن ينزلوا في الساحة ويعتبروا المعركة المقبلة المؤكدة معركتهم. أن يترك الأمر لمؤسسات من مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وتك توك وعشرات من أمثالها، وهي كلها صاحبة مصلحة شخصية أنانية، فهذا سيكون خطأ العصر الأكبر والأتعس.
كاتب بحريني