مع التيار الرومانسي في الأدب، سوف يعلن الخيال عصيانه وتمرده المطلق على ديكتاتورية العقل، ليتحول بذلك هذا الاتجاه، إلى مقاربة جمالية تقدس جلال الخيال في عملية إدراك الحقائق الغائرة في سديم هذا الوجود. وهي بذلك تتقاطع بشكل كبير مع الخطاب الصوفي ومقاربته للإبداع والمعرفة بشكل عام.
فالمقاربتان معا، تلحان على ضرورة الاهتمام بالحياة الوجدانية في كينونتها المبهمة من الداخل، بوصفها وجها آخر من أوجه الحقيقة في هذا الوجود؛ وعطفا على ذلك فإنهما يعتبران الوجدان والمعرفة القلبية، سبيلا آمنا لبلوغ المطلق واستشفافه بإيعاز من القوة التخييلية.
والحق إن أهم ما توصل إليه الاتجاه الرومانسي، بخصوص التنظير للخيال، هو ما أنجزه المنظر الرومانسي الإنكليزي صاموييل تايلر كولردج، من أبحاث في الموضوع، إذ سيؤسس تصورا واضحا يحدد فيه طبيعة الخيال المبدع، كما هو ظاهر في قصائد بودلير. فقد عرف الخيال بقوله: «إنه القوة التي تستطيع التوفيق بين عناصر متنافرة». كما يقسمه إلى: خيال أولي، وهو الإحساس الذي به يدرك الإنسان عالم الظواهر، ويطبع نزوات التداعي الحر والنوع الأعلى الذي يوفق بين المتضادات. ويمتاز بقوة الإيحاء وتشابك وجوهه وتعددها؛ وخيال آخر ثانوي، مجرد رجع صدى للأول.
وفي معرض حديثه عن الخيال يميز كولردج ما بين الخيال والتصور، فالخيال عنده من آليات الخلق، كالإضافة والابتكار، إذ بواسطته يمكننا إعادة ترتيب وخلق تفاصيل هذا العالم. وعلى هذا الأساس راح كولردج يفرق بين الخيال والوهم، ذلك أن هذا الأخير يعتبر مرحلة أساسية من مراحل تطور الفاعلية التخييلية التي تقوم بعملية حشد وجمع المادة الأولى، التي على أساسها ستُركب هذه القوة الخيالية عوالمها. إن الخيال في نظر كولردج قوة سحرية تركيبية تخلق التآلف والوحدة ما بين المتناقضات كما تعمل على ذر بذور الجدة في المألوف وفي السائد بنية الخلق والإبداع.
للإشارة فإن جل الشروحات الحديثة لمفهوم الخيال، تأسست على يد الشعراء والمفكرين الرومانسيين، إذ ستصل نظرية الخيال ذروتها، حينما ستعطي للخيال الريادة في اكتشاف الحقيقة الوجدانية لهذا الوجود، محولة إياه إلى فرع معرفي تحوم حوله باقي فروع المعرفة. من هذه الحافة بالضبط، انطلق البحث في مفهوم الخيال، بشكل جاد ومسؤول، بل سوف تتحول القوة التخييلية هذه، عند الاتجاهات التي ستخرج من رحم الاتجاه الرومانسي، كالرمزية والسيريالية وغيرها، إلى حالة من الكشف لأشد المناطق سرية في كهوف الذات وطبقاتها السفلى. وستمتد أدبيات هذه الفلسفة (الرومانسية) في البدايات الأولى من القرن المنصرم، إلى الثقافة والأدب العربيين ، أو بالأحرى إلى الممارسة الشعرية العربية، بواسطة مدرسة الديوان وشعراء المهجر خاصة في بداية الأمر.
لقد أصبح مفهوم الشعر عند الشعراء الرومانسيين العرب، يتحلى بأبعاد ووظائف جديدة، خارج سياق العرف والعادة. مفهوم يؤمن بسحرية الخيال، وقدرته على اختراق حجاب النفس، وكذا التوغل في طبقات الحقيقة السفلى وجوهرها.
لقد أصبح مفهوم الشعر عند الشعراء الرومانسيين العرب، يتحلى بأبعاد ووظائف جديدة، خارج سياق العرف والعادة. مفهوم يؤمن بسحرية الخيال، وقدرته على اختراق حجاب النفس، وكذا التوغل في طبقات الحقيقة السفلى وجوهرها. وهذا المبتغى، سوف لن يتأتى، كما تقول بذلك المقاربة الشعرية الرومانسية، إلا إذا تم تحرير القوة التخييلية من خلال عملية تفجير التعبير الشعري، كما يرى عبد الرحمن شكري، لتجاوز التقريرية والمباشرة والسطحية في التعبير. وسوف يتجذر هذا الموقف، بخصوص الخيال، أكثر عند أحد أعمدة شعراء ومنظري مدرسة المهجر، وأقصد به جبران خليل جبران، الذي استطاع بممارسته النصية أن يشيد سماء مرصعة بالنجوم والثريا في دنيا الشعر الرومانسي العربي. إن رؤية جبران خليل جبران للخيال، يلخصها بوضوح في نصه الموسوم بـ«ملكة الخيال» الذي يُعنى بهذه الملكة بشكل فني تخييلي بديع.
إن جبران خليل جبران، في هذا النص، يرسم مشهدا رائعا لعوالم الخيال، التي لا يمكن إطلاقا للحقيقة أن تكون فيها سوى مجازية. فالمجاز (الخيال بمعنى آخر) يعادل الحقيقة عند جبران، بعكس ما أوهمت به صناعة المنطق من قبل، التي عادلت بين العقل والحقيقة معتبرة المعاني عقلية بحتة. كما أن جبران، من خلال هذا النص، يهتم كثيرا بالقارئ، وهي التفاتة نوعية غير مسبوقة في ثقافتنا العربية تحسب لجبران خليل جبران. فعلى القارئ أن يكون مريدا صوفيا شرب من دهشة الخيال حتى ارتوى وتفنن في حالات هذا الطقس كثيرا، الشيء الذي سيؤهله لدخول باب الخيال بثياب العرس.
وعلى هذا الأساس، ومن داخل دراسة مطولة تحت عنوان «الخيال الشعري عند العرب» يستنتج أبو القاسم الشابي ما يلي: «لقد علمتم من كلماتي السابقة، أن كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره، كان على وتيرة واحدة، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب. وإن الروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ إلى جوهر الأشياء وصميم الحقائق، وإنما همها أن تنصرف إلى الشكل، والوضع واللون والقالب، أو ما هو إلى ظواهر الأشياء أدنى من دخائلها، وهي في القصة لا تعترف إلى طبائع الإنسان وآلام البشر، وفي الأساطير لا تعبر عن فكر سام وخيال فياض، وإنما هي أوهام وأنصاب جامدة».
ومن هذه الرؤية الرومانسية سوف تنطلق مجموعة من المباحث الأبستيمولوجية الحديثة، والنظريات الفلسفية، والاتجاهات الشعرية المعاصرة، التي لها علاقة، إما من بعيد أو قريب، بالإدراك الرومانسي لمفهوم الخيال ووظيفته، نحو تطوير هذه القوة وترويجها على نحو مختلف تماما عما درجت عليه عادة التيارات الفلسفية القديمة، ونقصد بذلك الانتقال من دراسة الخيال بوصفه ملكة، إلى الاهتمام بالمتخيل. إن النظر إلى الخيال من زاوية الخلق، أو على الأقل من زاوية إعادة ترتيب الأشياء، سوف يخلق رهانا جديدا في الشعريتين، الغربية والعربية، المعاصرتين (إبداعا ونقدا وتنظيرا) من جملة ما يراهن عليه، الصورة الشعرية كتجل من تجليات طاقة الخيال.
شاعر وناقد مغربي