الخليل ـ «القدس العربي»: تصطف الطناجر النحاسية الضخمة بجانب جدار منحوت من الصخر تحوّل للون الأسود أسوة ببقية الطناجر، بفعل نار خشب الصنوبر التي يشعلها الرجل السبعيني محمد عرفة، ابن مدينة الخليل، الذي يعتبر من ممارسي مهنة تصنيع “الدبس” التقليدية التي ورثها أبا عن جد.
وقبل إيقاد النار أسفل الطناجر الضخمة تملأ بعصير العنب المعدّ بعد عملية غسل وتنظيف ومن ثم عصر وتصفية لتدخل لاحقا في رحلة الغلي على نار قوية تمتد لأكثر من 12 ساعة متواصلة.
ويعتبر دبس العنب الذي يطلق عليه المصريون اسم العسل الأسود، أحد الأطعمة الشعبية الفلسطينية التي تحضر منزليا وبطرق تقليدية عبر عصر وطبخ ثمرة العنب.
وتحرص عائلات فلسطينية في مدينة الخليل التي تشتهر بزراعة العنب بأنواعه المختلفة على عادة صناعة الدبس بطريقة ورثتها عن الأجداد مع بدايات شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام.
الطريقة الأفضل
ويعتبر محمد عرفة صاحب الخبرة الطويلة في إنتاج “دبس العنب” الذي يعتبر ماركة مسجلة لأهل مدينة الخليل في نظر الفلسطينيين، ما ينتجه من “دبس” هو الأفضل طعما وجودة، “فطبخ العصير في طناجر النحاس القديمة يعمل على المحافظة على طعمه ويعزز من جودته”.
ويضيف: “طريقة صنعي للدبس مميزة ولا يمكن أن تتفوق على طريقتي أي ماكينة حديثة أو من خلال استخدام أدوات وطناجر من الألمنيوم أو “الستانلس ستيل”.
ويؤكد عرفة الذي يعمل منذ سنوات طويلة في هذه المهنة كل صيف، أن ميزة الأواني النحاسية أنها لا تتأكسد، وتحافظ على الحرارة أثناء فترة الغلي الطويلة، وهو ما يمنح المنتج الجودة المطلوبة. وإلى جانب الحاج عرفة تقف مجموعة من أبنائه الجامعيين معه، يمارسون المهنة التي تعلموها منه، ورغم كبر سنه إلا أنه ما يلبث أن يساعدهم بيديه بحيث لا يقبل أن يمارس أعمال الإشراف العامة فقط.
ويؤكد أبو عرفة في حديث لـ”القدس العربي” أنه ينتج سنويا ما مقداره أكثر من 15 طنا من الدبس، جزء كبير منها يذهب إلى التصدير إلى عمان وبعض دول الخليج العربي، فيما يستهلك السوق الفلسطيني في الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948 جانبا من الكمية.
سنة ليست جيدة
ولا يبدو عرفة سعيدا بموسم العنب هذا العام حيث يقول: “هذه سنة لم تكن جيدة على الفلاحين ومزارعي العنب، والسبب في ذلك يتمثل في ضعف مستوى هطول الأمطار في فصل الشتاء، وهو ما يؤثر على ثمر العنب”.
ولا يخفي أبو عرفة إحساسه الكبير بوضع المواطنين العام حيث كورونا التي خلقت وضعا اقتصاديا أعاق تسويق جانب كبير من منتجاته وأثر على شراء المواطنين، ومع ذلك يبلغ ثمن لتر الدبس 20 شيقلا عند البيع بالجملة (الدولار يعادل 3.25 شيكل)، وغالبا ما يصل ثمن لتر الدبس في المحلات التجارية الى 50 شيقلا، وما يحدد ذلك جودة المنتج.
وعن إنتاج الدبس يقول الحاج عرفة: “كل 200 كيلو من العنب تعطينا 170 لترا من عصير العنب”، وهي تحتاج إلى 18 ساعة عمل متواصلة ما بين الغسيل وصولا إلى غليه وتحويله إلى دبس”.
منتجات أخرى
ولا يقوم عرفة وأبناؤه الجامعيون، الذين اصطفوا يعملون إلى جانبه بفعل سيادة حالة البطالة في سوق الوظائف الرسمية والخاصة في عموم مناطق الضفة الغربية، بصناعة الدبس بل يتعداه لينتج “الملبن” أيضا الذي يشبه عجينة بنية حلوة المذاق تسكب على ألواح بلاستيكية ومن ثم تتحول إلى لفائف حلوة المذاق وتمنح الدفء في فصل الشتاء.
وتغطي منتجات “الملبن” بإيقاع فريد مساحة كبيرة من منطقة مجاورة لمنزل عرفة، حيث تنشر في الهواء وأشعة الشمس كي تنشف ومن ثم تلف كأشكال مستطيله تمهيدا لشحنها للمستهلكين.
ويعتبر العنب الفاكهة الصيفية التي تشتهر بها مدينة الخليل، ومن هذه الفاكهة التي تباع على شكل قطوف ذهبية ملونة (بين الأخضر والأسود)، حيث تباع القطوف كبيرة الجحم لتؤكل طازجة، أما القطوف الحلوة وذات الحبة الصغيرة فيتم تحويلها إلى منتجات غذائية مثل العنبيّة، والزبيب، والملبن، والسماق والعصير والخل، إلى جانب الدبس بطبيعة الحال، وجلها منتجات تخزن لفصل الشتاء البارد جدا في جنوب الضفة الغربية.
وتكمن أهمية زراعة العنب بالنسبة لأهل الخليل (48 ألف دونم) بأنه يحمل في جوهره رسائل التشبث بالأرض والصمود عليها، ودوام الاهتمام بها من خلال عشرات الاف الدونمات التي تبدو خضراء بفعل عرائش العنب التي يتم العناية والاهتمام بها طوال العام.
وتجود المحافظة التي تعد من أكبر محافظات الضفة الغربية بالعنب المتعدد الألوان والمذاقات والأشكال، وما بين اللونين الأخضر والأسود تتنوع ثمار العنب بين: البلدي، والزيني، والبيروتي، والشامي، والحمداني، والمراوي، والسلطي الخضاري، والحلواني، والرومي الأسود.
وتقول الأغنية الشعبية المشهورة “والشهد من عنب الخليل” التي ألفها الشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة 1966 و”الشهد” هنا كلمة تتجاوز معنى العسل الحرفي لتصبح رديفا لمجموعة كبيرة من المنتجات حلوة المذاق والمفيدة للإنسان.
ويعد “الدبس” إحدى المأكولات الشعبية الموسمية غير المتوفرة دائما نظرا لاختلاف نمط الحياة واعتماد الناس على شراء الأغذية من المحال التجارية بدلا من تصنيعها، وهو إلى ذلك يعتبر المنتج الأكثر شهرة المرتبط تماما بثمار العنب.
ومع نضوج ثمار العنب جيدا يبدأ المزارعون بفزر العنب المناسب لصناعة الدبس، حيث تمر حبات العنب بعد ذلك بسلسلة من الخطوات حتى تصبح دبسا خالصا من دون أي مواد أو نكهات صناعية، وتعتبر هذه الحالة احتفالا وكرنفالا سنويا يتجمع فيه الأهل والأحبة والجيران.
وبعد عملية جمع العنب وقطفة يقوم العمال بفرطه ثم تنظيفه وغسله، ومن ثم يسحق بهدف تجهيزه للعصر حيث يوضع في كيس من الخيش ويربط، ثم يوضع الكيس في حفرة تكون معدة من الإسمنت ونظيفة تحمل اسم “المدعس”.
وحسب الطريقة التقليدية يعصر العنب يدويا وبالطريقة القديمة بالأرجل، لكن الغالبية اليوم تستخدم آلات حديثة لهذا الغرض، ويكون بجوار المدعس حفرة أصغر منها ومستواها يكون منخفضا عن الحفرة الكبيرة الأولى حتى ينساب عصير العنب من ثقوب الكيس إلى الحفرة الصغيرة، وبعدها يجمع العصير الكثيف، ويوضع مرة أخرى في كيس آخر من الخيش، ويعلق حتى يصفى ويصبح نقيا ومن ثم يوضع في طناجر النحاس استعدادا لعملية الغلي، ومن ثم يصفى العصير المغلي من جميع الشوائب، ويحضر لمرحلة الغلي الأخيرة وتسمى مرحلة “عقد الدبس”، حيث يتحول من سائل أصفر مخضر إلى سائل عسلي قريب في لونه إلى العسل الغامق بعد غليه عدة ساعات على النار، ثم ينتظر حتى يبرد ويعبأ في قوارير وأوعية للبيع أو الاستعمال.
وحسب خبراء التغذية فإن الدبس يحتوي على الكالسيوم والبوتاسيوم والسكر، وغني بالسعرات الحرارية، كما أنه يستخدم علاجا لفقر الدم والأمراض الجلدية والصدرية. لكن الفلسطيني العادي يأكله في الشتاء عبر خلطه مع الطحينية أو الزيت، فيما الأطفال يتناولونه مع الثلج ليصبح بمثابة آيس كريم أو بوظة الشتاء.