التقرير الذي اصدرته الاسبوع الماضي لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان البريطاني حول علاقات بريطانية بكل من المملكة العربية السعودية والبحرين يمكن اعتباره احدى الوثائق المهمة التي تتعاطى مع الوضع الخليجي الذي يمر بمرحلة تغير تتوسع باضطراد.
وبرغم المؤاخذات على السياسة البريطانية ازاء دول مجلس التعاون الخليجي واحجامها عن اقتحام عالم التغيير السياسي، فان قرار البرلمان البريطاني مراجعة العلاقة مع البلدين المذكورين بشكل مكشوف يمثل شجاعة كبيرة، بغض النظر عن دوافع تلك الخطوة او اهدافها. ومن المؤكد ان التقرير الذي اصدرته اللجنة سيستقبل بمشاعر مختلطة لانه حاول خلق توازن بين انتقاد النظامين وتأكيد الدعم البريطاني لهما، واصراره على ان يكون الاصلاح المرتجى منهما اداخليا’، اي لا يلامس هيكل نظام الحكم، بل يصلح جوانبه المعطوبة. كما ان سعيه لتبرير بيع السلاح لكلا البلدين لن يحظى بقبول المنظمات المناهضة للحرب وانتشار الاسلحة، فلم ينتقد باي شكل العلاقات والصفقات العسكرية التي تعتبر من بين اهم مرتكزات نظامي البلدين. مع ذلك لن تشعر الرياض ولا المنامة بارتياح لما تضمنه التقرير من انتقادات واضحة ستضيف وسيلة اخرى من وسائل الضغط للقوى المعارضة.
وستكون العائلة الحاكمة في البحرين اكثر قلقا لان التقرير وفر لمعارضيها مادة اعلامية دسمة لانتقادها والاستمرار في ممارسة الضغوط عليها. وقام البلدان قبل عامين، عندما طرح البرلمان البريطاني فكرة مراجعة العلاقات بين بريطانيا وكل من السعودية والبحرين، تعبئة عامة لامكاناتهما السياسية والاعلامية والشركات العامة التي تعمل لتحسين سمعتهما، بهدف التأثير على مسار التقرير وما يتمخض عنه من قراءات وتوصيات. مع ذلك جاء التقرير بشكل مزعج لكل من الرياض والمنامة، وان كانت الاخيرة اكثر تضررا. وقد دفع ذلك سفارة السعودية في لندن لاصدار بيان أكد فيه السياسة السعودية التدخل لحماية نظام الحكم في البحرين كلما تعرض للتهديد. هذا لا يعني ان بريطانيا تهدف لازعاج الحكم الخليفي في البحرين، وانما يكشف عمق الازمة السياسية فيها وأثر الثورة الشعبية المتواصلة في خلق واقع جديد لم يستطع الحكم، برغم الاموال النفطية الهائلة خصوصا من الجيران الخليجيين، والدعم الانكلو ذ امريكي المتواصل، منع حدوثه او التشويش عليه. ويمكن القول ان التقرير اثبت، بما لا يقبل الشك، ان استمرار ثورة البحرين جعلها من اهم مصاديق مقولة الثورة، خصوصا بعد ما جرى في مصر وسورية وليبيا واليمن من إجهاض للمشروع الثوري، و ما تشهده تونس حاليا من محاولات على ذلك الطريق. التقرير يثبت ان ثورة هذا البلد الصغير استطاعت، برغم التدخل العسكري السعودي والدعم الامني الغربي، فرض نفسها كمشروع متميز في المقاومة المدنية السلمية والثورة الشعبية المتأججة وتقديم نموذج قادر على تحقيق التغيير بأقل الخسائر البشرية الممكنة، لانها ابتعدت عن العنف ورفضت الارهاب، جملة وتفصيلا. هذا المقال سيتناول بشيء من التحليل ما انطوى عليه التقرير ازاء الوضع في البحرين، وسيناقش مقال الاسبوع المقبل الشق المرتبط بالمملكة العربية السعودية.
ليس معلوما ما اذا كان اصدار التقرير متزامنا مع الذكرى الثانية لصدور تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق التي شكلها حاكم البحرين قبل عامين، تحت الضغط الدولي الذي تمخض عن الثورة التي انطلقت في الرابع عشر من فبراير 2011. تلك اللجنة ترأسها الدكتور المصري شريف بسيوني وشملت عضويتها خبراء دوليين في مجال القانون الدولي وحقوق الانسان. وبرغم محاولات الحكومة السعي لاقناع العالم بانها قامت بتنفيذ توصيات تلك اللجنة، ما يزال العالم غير مقتنع بذلك، ويؤكد ما احتواه التقرير ان الحكومة البحرينية فشلت في ذلك تماما. ويبدو ان التقرير البريطاني لن يختلف كثيرا في نتائجه العملية عن تقرير ابسيونيب المذكور. فهو يقدم للحكومة البريطانية توصيات عديدة، قد لا يمكن تنفيذها بسهولة. وليس مستبعدا ابدا ان تواجه توصيات اللجنة البرلمانية مصيرا شبيها بمصير توصيات اللجنة المستقلة برئاسة بسيوني. فمثلا تقترح التوصيات ربط صفقات السلاح البريطانية للبحرين بعدم استخدامها للقمع الداخلي، وان تعطى الحكومة البحرينية فترة محددة لتنفيذ توصيات لجنة بسيوني قبل ان تضاف الى قائمة الدول االمقلقةب في مجال حقوق الانسان. وتؤكد تلك التوصيات فشل الحكومة البحرينية في اتخاذ اجراءات فاعلة لتفادي الغضب الشعبي والقيام باصلاحات سياسية ذات معنى لتلبية مطالب الثورة، وهي امور يصعب على تلك الحكومة تنفيذها. فالحكومات الديكتاتورية تعلم عددا من الحقائق: اولها ان بقاءها في الحكم مرتبط بشكل وثيق بانتهاك حقوق الانسان، فلا يمكن المواءمة بين الاستبداد واحترام حقوق الانسان، ولا يمكن تصور وجود نظام ديكتاتوري لا يمارس الاعتقال التعسفي والتعذيب ومصادرة الحريات العامة. الحكومة البحرينية تدرك ان السماح بالحريات العامة سيؤدي الى اضعاف قبضتها على الوضع العام، وان التوقف عن ممارسة التعذيب سيلغي احد اساليب الردع المؤثرة، وان اقامة حكم القانون سيوسع دائرة الحريات ويشجع المواطنين على البقاء في الساحات، وان اقامة نظام سياسي على اساس ‘صوت لكل مواطنب سينهي ظاهرة الاستبداد والتمييز والفصل العرقي والطائفي. ويعتقد نشطاء الانسان المحليون استحالة تنفيذ التوصيات التي تطالب بذلك.
ويشيرون الى ان لجنة مكافحة التمييز الديني قدمت في ،2006 19 توصية للحكومة البحرينية لم تنفذ شيئا منها، وان مجلس حقوق الانسان قدم العام الماضي 176 توصية بقي اغلبها خارج اطار التنفيذ، وان منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووج قدمتا توصيات مماثلة. وطرح البرلمان الاوروبي العام الماضي عشرات التوصيات التي لم تنفذ. وهذا يؤكد ان التوصيات غير الملزمة لا تجد طريقها للتنفيذ.
تقرير لجنة العلاقات الخارجية البريطانية تضمن 19 توصية موجهة للحكومة البريطانية قد ينفذ تشيء قليل منها ولكن أغلبها لن ينفذ وقد تبحث الحكومة البريطانية اعذارا لتبرير ذلك.
فالتوصيات التي تدعو لتمتين العلاقات مع البحرين ومواصلة التواصل معها وتمتين االعلاقات التاريخيةب والاستمرار في تقديم الدعم العسكري وتوقيع الصفقات العسكرية لتوفير اسلحة دفاعية لا تستخدم للقمع الداخلي وتقوية الروابط الثقافية (عبر المجلس البريطاني Council British)
وتشجيع التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، والمساعدة في مجال تدريب الجيش واجهزة الامن على ثقافة حقوق الانسان، واطلاع البرلمان البريطاني على الاتفاقات والاتصالات والعلاقات. هذه التوصيات جميعا ستجد طريقها للتنفيذ لانها تتعلق بالجانب البريطاني وتعود بالنفع المادي عليه. ولكن التوصيات الاخرى لن تحظى بالقدر نفسه من التنفيذ لانها مرتبطة بالجوانب المثيرة للجدل من وجهة نظر الحكومة البحرينية. ومن هذه التوصيات الاصرار على تنفيذ توصيات اللجنة المستقلة لتقصي
الحقائق (لجنة بسيوني)، فهذه لن تنفذ ومن المتوقع ان يتغاضى المسؤولون البريطانيون عنها لان الجانب البحريني يسعى لتجاوزها. وقد كرر المسؤولون البحرينيون ان توصيات بسوني نفذت وان ملفها قد اغلق. ومن بين تلك التوصيات محاكمة مرتكبي جرائم التعذيب (ومن بينهم افراد من ابناء العائلة الحاكمة)، وتنفيذ هذه التوصية مستحيلة، لانها ستؤدي الى حالة من الاحباط والاختلاف في اوساط الحكم الذي يعتمد على ضباط الامن
لقمع المواطنين، ويعتقد انهم مصدر قوته وليس المواطنين. ومن التوصيات كذلك دعوة الحكومة البحرينية للحوار مع المعارضة، وهذا امر مستحيل ايضا. وقد اثبتت الشهور العشرون الاخيرة ان مقولة الحوار شكلية تستخدم للاستهلاك المحلي. فبدلا من ان يكون الحوار بين المعارضة والعائلة الحاكمة، تم تحويله ليكون بين المواطنين انفسهم، وكأن المشكلة السياسية قامت بين المواطنين وليس بينهم وبين العائلة الحاكمة. وفي الشهور الاخيرة استهدفت اجهزة الامن عناصر الجمعيات السياسية المرخصة بعد ان اعتقلت كافة النشطاء الميدانيين ومن بينهم القادة الثلاثة عشر الذين اعتقلوا بعد يومين من اجتياح القوات السعودية الاراضي البحرانية. ولعل التوصية الاخطر مطالبة حكومة البحرين بالسماح للمقرر الخاص حول التعذيب بزيارة البحرين لتقصي الحقائق.
وهذا امر مستحيل ايضا لان المقرر الخاص لن يجد صعوبة في اكتشاف حجم التعذيب ومداه وتورط عناصر ذات مناصب عليا في الحكم في اساءة معاملة المعتقلين وتعذيبهم. الجانب البحريني يرى في هذه التوصيات اتهديداب لامنه، فهو ينتمي لمنظومة سياسية لا تستمد قوتها وشرعيتها من الشعب، بل من القوة والغلبة والقهر، وهذا لا ينسجم مع قيم الدولة المعاصرة التي تستمد شرعيتها من الدعم الشعبي عبر صناديق الاقتراع.
من المؤكد ان التقرير المذكور سيكون له اصداء واسعة خصوصا في الدوائر الدبلوماسية.
فالحكومة البحرينية تأمل دائما في دعم غربي غير محدود او مشروط او مؤطر بايديولوجيات تغييرية او ديمقراطية. بينما التقرير يوجه اللوم لها بوضوح وشدة. ففي التوصية رقم 44 يقول التقرير: اان الكثير من مشاكل البحرين من صنع حكومتها.وعلى المملكة المتحدة ان تضغط باستعجال اكبر وقوة لحمل البحرين على تنفيذ توصيات اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق، والدخول في حوار جاد والترحيب بآليات الامم المتحدة (المقرر الخاص للتعذيب) لكي يمكن التأسيس لثقة جيدة في نواياها.’
وتمضي التوصية لتحديد اطار زمني لذلك قبل اتخاذ اجراءات اكبر، فتقول: ‘فاذا لم يحدث تطور ملموس بحلول العام 2014 فعلى الحكومة ان تصنف البحرين كـ’دولة تبعث على القلقب في تقريرها حول حقوق الانسان. وتنتهي التوصيات بالدعوة للتعاون مع الدول الاقليمية الاخرى في الخليج (ومن ضمنها ايران وا لعراق( لحل ازمة البحرين والتعاطي مع الاشكالات الطائفية فيها. وهذه دعوة قوية من البرلمان البريطاني الذي استمع لشهادات قطاع واسع من الشهود. ويلاحظ ان اغلب الذين قبلت اللجنة بالاستماع لشهاداتهم شفويا في جلساتها التي عقدت بداية هذا العام، كانوا اقرب للحكومة البحرينية، ومع ذلك جاء التقرير والتوصيات محرجة
للحكومة. ومن الذين قدموا شهاداتهم سفراء بريطانيون سابقون، وممثلون لشركات علاقات عامة وظفتهم الحكومة البحرينية، وممثلون عن منظمات تعمل لصالحها ووزراء وموظفون لديها. بينما لم تمثل المعارضة الا ببضعة تافراد سمحت اللجنة لهم بعد ان وجهت صحف بريطانية مثل افايننشال تايمزب و ااندبندنتب العام الماضي انتقادات لها بعدم الموضوعية في اختيار الشهود. وتضمن التقرير الذي صدر يوم الجمعة الماضية افادات اغلب الذين تقدموا كتابيا بها، بدون ان يسمح لهم بالمثول امام اللجنة التي عقدت جلساتها بمبنى البرلمان.
التقرير المذكور يكشف عددا من الامور: اولها ان بريطانيا لاعب اساسي في شؤون منطقة الخليج، ولها دور تاريخي يمتد الى قرابة المائتي عام منذ توقيع االاتفاقية العامةب في 1820. الثانية: انها تعرضت لانتقادات شديدة بسبب موقفها الذي ما يزال متميزا عن مواقف الدول الغربية الاخرى بالدعم غير المشروط للحكومة البحرينية ورفضها شجب اي من اجراءاتها القمعية.
الثالثة: ان البرلمان لاحظ خطأ هذه السياسة وسعى للحفاظ على المصالح البريطانية باعادة النظر في تلك السياسة وتقديم اقتراحاته بالتصحيحات المطلوبة، رابعها: انه بالرغم من محاولات اهندسةب التقرير، فقد جاءت توصيفاته وتوصياته مزعجة لكل من الحكومتين البحرينية والبريطانية لانه وضع خارطة طريق محرجة للطرفين.
خامسها: ان على بريطانيا مسؤولية
تاريخية امام الشعوب التي خضعت لهيمنتها قرابة القرنين. وبعد الحقبة الاستعمارية تركت بريطانيا هذه الشعوب بدون ان تساعد على قيام دول عصرية محكومة بدساتير عصرية او انظمة ديمقراطية. وتركت دول الخليج بدون ترسيم حدودها بشكل نهائي الامر الذي ادى الى خلافات في ما بينها ادت الى مواجهات عسكرية احيانا (السعودية وقطر في1986) وقضائية (قطر والبحرين، امام محكمة لاهاي في 2001) احيانا اخرى. ويفترض ان
تكون توصيات التقرير الصادرة عن البرلمانتوموجهة للحكومة موضع اهتمام وان تؤخذ من قبل الحكومة بشكل جاد، لان ذلك يصب في مصلحة بريطانيا بشكل اساسي. انه وثيقة تؤكد ان مصالح الدول الديمقراطية لا يمكن ضمانها الا في ظل انظمة حكم محكومة بدساتير عصرية، تحترم شعوبها وتؤمن بالتعددية وتبادل السلطة واقامة حكم القانون واحترام حوق الانسان. والامل ان يساهم هذا التقرير في اعادة السياسة البريطانية الى طريق اكثر صوابا وأبعد عن المصالح المادية المحدودة، وأكثر ارتباطا بقدر من القيم والمبادئ والاخلاق. وما لم يتم ذلك فسيكون التقرير اضافة غير ذات شأن الى ملف من الأزمات والمشاكل التي لا تخدم ايا من الاطراف، ولا تساهم في إحلال الامن والسلام الدوليين.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن