الدبلوماسية الجزائرية وثنائية الرومانسية والبيروقراطية

حجم الخط
15

ندوة السفراء والقناصلة والمبعوثين الدبلوماسيين، التي نظمتها الرئاسة الجزائرية الأسبوع الماضي وافتتحها الرئيس عبد المجيد تبون، حدث نادر في تاريخ وزارة الخارجية الجزائرية، تشبه الندوة، التي حضرها مئات الدبلوماسيين، التقليد الفرنسي الذي يجمع الرئيس (بغض النظر عن اسمه وانتمائه) كل صيف مع سفراء بلاده عبر العالم، أثناء وجودهم في باريس في إجازة سنوية أو زيارات استشاراتية وتوجيهية.
أسدى الرئيس تبون الكثير من التوجيهات، خصوصا في الشق المتعلق بالعلاقة بين الجزائريين في الخارج وسفارات بلادهم وقنصلياتها، وهي علاقة فاترة وأحيانا منعدمة إلا في حدودها الدنيا.
في العموم، تعاني الدبلوماسية الجزائرية من مشكلتين: تمدد الممارسات البيروقراطية السلبية التي في الداخل إلى القنصليات والسفارات، والرومانسية المفرطة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الدولية وتجاذباتها.
في الشق الأول من هذه الثنائية، لا تختلف علاقات جزائريي المهجر بقنصلياتهم عن علاقات بقية الجزائريين بالمؤسسات الإدارية والقانونية داخل البلاد. الجزائري في الخارج يعاني مع الخدمات القنصلية مثلما يعاني جزائريُ الداخل مع البلدية والولاية وإدارات الكهرباء والبناء والسجل التجاري.. إلخ. في أغلب الحالات، الأفراد في القنصليات طيبون ومتفهمون، ويؤمنون بأن الوضع أعوج لا يطاق. لكن «المطحنة» تضعهم في منطق آخر يجعل من الكثيرين منهم اثنين في واحد. إنسان طيب على الصعيد الشخصي، وسلبي كموظف. من النادر أن تُحدِّث جزائريا في المهجر عن معاملة ما في القنصلية حيث تقيم، ولا يرد ناصحا بأن ترى فلانا، وهو قريب فلان أو صديق شقيق زوجة علّان! هي دائما نصائح بسلك طريق موازٍ عساه يسهّل معاملة هي سهلة ومن أبسط حقوقك.
حدث هذا معي أكثر من مرة. في إحدى إجازاتي في الجزائر التقيت بالصدفة شخصا أعرفه منذ الطفولة بدا لي أنه تسلّق نصيبه في سُلّم التأثير الاجتماعي. بعد الترحيب الأول قفز إلى الموضوع الذي لا بد منه: إذا احتجت شيئا في القنصلية اسأل عن فلان من طرفي! مرة أخرى التقيت شخصا لا تربطني به قربى أو صداقة، وبسرعة أبدى أسفا أقرب إلى العتب لأن لا أحد أبلغه سلفا بموعد وصولي لكي يُيّسر أموري اللوجستية في المطار (تيسير الأمور هنا يعني أن يقفز بك طوابير الجوازات والجمارك على حساب مسافرين منهكين مثلك بينهم عائلات وأطفال، وغيرها من التصرفات التي لا تسعدني ولا أرضاها لنفسي).
أحد أسباب هذا الواقع غير السويّ أن القنصليات ليست حرّة في عملها وتقديرها للأشياء. عليها دائما العودة إلى المركز في الجزائر العاصمة مع كل ما يعنيه ذلك من تأخير وتعقيد. وعليها دائما أن تضع في حسبانها العامل الأمني، الضمير المستتر الحاضر في كل المعاملات. هي ذاتها الذهنية السائدة داخل الجزائر. في أيّ معاملة إدارية تحتاج إلى مَن يسهّل «أمورك» وفي أيّ معاملة يأتي من ينصحك بأن ترى فلانا. حتى عندما تسير أمورك على ما يرام، وإذا ما فتحت الموضوع أمام أحدهم بأثر رجعي، لا تستغرب أن يسألك: لماذا لم تخبرني؟ ويزيد بأنه يعرف المدير فلانا، أو أن المسؤول هناك قريب أحد اصدقاء شقيق زوجته!

اليوم تبدو الدبلوماسية الجزائرية سجينة شعارات وتوجهات تخلى عنها حتى الذين أوجدوها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي

ستستوي العلاقة بين الجزائريين في الخارج وقنصليات بلادهم، يوم يتصالح الجزائري في الداخل مع إدارته وتستوي العلاقة بينهما. مطلب الجميع، بدون استثناء، يجب أن يكون إنقاذ الجزائريين البسطاء من شرك البيروقراطية والإذلال الإداري. الوجه الآخر لثنائية الدبلوماسية الجزائرية يخصّ الدولة ومصالحها. اليوم تبدو الدبلوماسية الجزائرية سجينة شعارات وتوجهات تخلى عنها حتى الذين أوجدوها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل «دعم الشعوب في تقرير مصيرها» و«عدم التدخل في شؤون الآخرين».
قليلة جدا الدول التي تواصل الإيمان بهذه الشعارات. وقليلة أصلا الشعوب التي لا زالت تطالب بتقرير مصيرها إذا استثنينا الفلسطينيين وجزءا من سكان الصحراء الغربية. ولأن طبيعة الاستعمار تغيّرت والدول الوطنية التي استقلت عن الاستعمار الغربي في النصف الثاني من القرن الماضي أخفقت في تحقيق طموحات شعوبها وأحلامها، انعكست الآية اليوم ولم يعد الاستقلال هو المطلب الأول. هناك شعوب تحلم بعودة الاستعمار السابق. وهناك شعوب تفعل المستحيل للذهاب إلى الاستعمار شمالا عندما تأخر في العودة! وهناك شعوب مستعمَرة حتى بدون استعمار حضوري. بين المستعمرات الفرنسية والبريطانية وأراضي ما وراء البحار والمحيطات، لا توجد اليوم حركات قوية تطالب بالاستقلال وتقرير المصير. في أفضل الأحوال هناك مطالب بالمساواة وتحسين مستوى المعيشة. بل هناك خوف من المستقبل في حال اضطرت هذه المجتمعات الفقيرة والمسالمة المنسية وسط محيطات لا نهاية لها، إلى الاستقلال والتكفل بمصيرها لأي سبب من الأسباب. «عدم التدخل في شؤون الآخرين» هو أيضا شعار لا مكان له في عالم اليوم، وسياسة باتت شيئا فشيئا سلبية. هناك شعوب عاجزة عن حل مشاكلها بمفردها. التدخل يصبح أحيانا حقك وواجبا عليك. يكون شعار عدم التدخل مفهوما عندما يتعلق الأمر بأخطار وأزمات لا تعنيك جغرافيا واستراتيجيا ولا تؤثر على أمنك ومصالحك المباشرة. ويصبح ذا جدوى أيضا إذا آمن به المجتمع الدولي والتزم بتنفيذه وفرضه على الجميع. أما عندما يتحول إلى الاستثناء وسياسة الأقلية، فيصبح مُضرّا، وليبيا نموذج: ما جدوى أن تتمسك الدبلوماسية الجزائرية بعدم التدخل في ليبيا بينما كل العالم يصب مرتزقته وأسلحته هناك، ويحرّض على القتل والقتال؟ إذا كانت هناك دولة يحق لها التدخل في ليبيا بالطريقة التي تراها مناسبة فهي الجزائر (وكذلك تونس). الامتناع عن التدخل هنا يعني التأخر في التحكم في حريق يزحف نحوك.
واقع الدبلوماسية الجزائرية اليوم هو ثمرة 30 سنة من الحلم والرومانسية، أعقبتها 30 أخرى من الانكفاء بسبب الحرب الداخلية وجنون عظمة المخلوع بوتفليقة. عندما أرادت أن تستفيق وجدت أن مياها كثيرة جرت من تحت الجسر.
العمل الدبلوماسي الدولي يحتاج إلى واقعية تديرها ماكينة متناسقة تعمل بفعالية ولا تخشى التضحية بشعارات تجاوزها الزمن. في الحالة الجزائرية يشبه الأمر باخرة كبرى مطلوب منها تغيير مسارها وسط ظروف مناخية صعبة وعواصف. مهمة معقّدة لكنها غير مستحيلة عند ربّان ماهر يعرف ماذا يريد.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول لماح:

    التمسك بشعارات عفى عنها الزمن ،هو في اعتقادي مسألة وجودية لنظام الحكم في الجزائر بسب طبيعته العسكرية الشمولية، وأي تغيير للبوصلة سيؤدي حتما إلى تغيير النظام من دولة عسكرية إلى مدنية وهو مالا تريده الطعمة العسكرية رغم الانتكاسات والتي شملت كل الميادين، طبعا هذه الرومانسية والسريالية الدبلوماسية هي في الواقع في صالح المغرب الذي يعرف كيف يوظفها لصالحه، خاصة في مسألة طي ملف الصحراء لصالحه وإلى الأبد

  2. يقول حاتم. مونتريال:

    ” .. العمل الدبلوماسي الدولي يحتاج إلى واقعية تديرها ماكينة متناسقة تعمل بفعالية ولا تخشى التضحية بشعارات تجاوزها الزمن ..” هذا هي كلمة السر : شعارات تجاوزها الزمن. ولكن الربان مفقود والحالة هاته.

  3. يقول alwjdi:

    كلنا في الهم غرب

  4. يقول تاوناتي-فرنسا:

    كلام منطقي..خريطة طريق لو عمل بها النظام الجزاءري لنفع شعبه و جيرانه..فلا أحد يصدق بأن هذا النظام يؤمن بهذه الشعارات..

  5. يقول Ahmed HANAFI اسبانيا:

    الديبلوماسية الجزائرية = 30 سنة من الرومانسية والشعبوية + 30 سنة من الانكفاء والضمور.
    هي اليوم باخرة يتحتم عليها تغيير المسار في مناخ صعب.
    شكرا لك يا كاتبنا المحترم، لقد فكرت وعبرت فأصبت .

  6. يقول عماد:

    الدبلوماسية الجزائرية الخارجية في طريقها الصحيح و نحن كجزائريين لن ننتظر من أطرافاً إتخذوا الجزائر عدواً بسبب مواقفها المنطقية و المشرّفة من قضايا إقليمة و دولية حتى يصدرون أحكاماً سلبية عليها.. مهما فعلت هذه الأطراف للنيل من مواقف الجزائر الإيجابية فلن تزيدها إلاّ قوة و إصراراً و تمسكاً بمواقفها الخارجية الرجولية (أعتقد أنّ رسالتي وصلت).

  7. يقول mostafa el-o:

    في دمك تسري اديلوجية العسكر و متى تقوم بتحليل موضوعي دون الاشارة الى الصحراء المغربية لانك تكتب و في نفسيتك تفكر لليوم اللذي تزور الجزاير و هذا صكوك غفران ختى يرضى عنك العسكر
    لا تنسى المغرب في صحراءه و الصحراء في مغربها الى يوم البعث ان شاء الله

  8. يقول تصويب:

    الكاتب يقصد :”…وقليلة أصلا الشعوب التي لا زالت تطالب بتقرير مصيرها إذا استثنينا الفلسطينيين و شعب القبايل. “

  9. يقول Çمغاربي غيور:

    حسب المناضلين في الخارج والحراكيين في الداخل فإن الشعب الجزاء ري الشقيق لازال يناظل من اجل تقرير مصيره مند 1962؟.

  10. يقول هيثم:

    كانت السنوات العشرون التي تلت استقلال الجزائر سنة 1962 سنوات ذهبية للدبلوماسية الجزائرية لاستفادتها من الصيت البراق لحرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي و كانت العاصمة الجزائرية تلقب بالحق والفعل بمكة الثوار. في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بدأت الدبلوماسية تفقد بريقها و حيويتها خاصة بعد المجازر التي عرفتها البلاد خلال الحرب الأهلية و العمليات الإرهابية الرهيبة داخل البلاد و الأدوار المتزايدة للعسكر على رأس السلطة و زادت الطين بلة كبرياء الرئيس بوتفليقة و عجزه عن الاضطلاع بمسؤوليات الدولة خاصة و أن الحكام الجدد في القارة الأفريقية لم يعيشوا فترات الاستعمار و التحرر و أصبحت اهتماماتهم تتركز على التنمية الاقتصادية الاجتماعية ،حيث انتهى عهد الشعارات الرنانة والأحلام اللاواقعية التي لا تسمن ولا تغني. لنأخذ على سبيل المثال قضية الصحراء المغربية حيث كانت الدبلوماسية الجزاؤريون يصولون ويجولون للتعريف بالجمهورية الصحراوية التي سارت بذكرها الكثبان في السبعينيات من القرن الماضي الى أن أصبحوا في سنة 2021 لا يجدون من يقبل منهم هذه البضاعة المتردية و أصبحوا يعترضون ويحتجون على قرارات مجلس الأمن حول الصحراء.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية