لم تتوقف الحرب، رغم بيانات الترحيب بنتائج قمة دول الجوار للسودان، التي انعقدت في القاهرة بمشاركة إثيوبيا، وافريقيا الوسطى، وإريتريا، وتشاد، وجنوب السودان وليبيا. علامة الاستفهام الكبيرة كانت عدم حضور وزير الخارجية السعودية، رغم أن السعودية تدير المنبر الأول الذي نشأ لمحاولة إحلال السلام في السودان وهو «منبر جدة». فهل دخلت الدبلوماسية المصرية، عن غير قصد، في منافسة مفتوحة مع الدبلوماسية السعودية لصالح الإمارات؟ أم أنها تحركت بدافع حماية مصلحة مصر القومية في إحلال السلام وتحقيق الاستقرار في السودان؟
وقد ترافقت الدعوة إلى عقد قمة دول الجوار وانعقادها في القاهرة مع ثلاثة تطورات مهمة بعدها وقبلها.
التطور الأول، هو أن القتال في السودان لم يتوقف، وإنما اشتد، خصوصا في العاصمة الخرطوم واتسع نطاق القصف الجوي واستخدام الأسلحة الثقيلة.
التطور الثاني، هو تجدد الاتصالات السعودية – الأمريكية بشأن دور «منبر جدة» في عملية إحلال السلام في السودان، وإعلان كل من طرفي الحرب استعداده لإرسال وفد إلى جدة لاستئناف المفاوضات.
التطور الثالث المهم الذي تم إعلانه يوم 12 يوليو/تموز، أي قبل انعقاد القمة، وجرى على الأرجح بالتنسيق بين لندن وواشنطن، هو إعلان بريطانيا فرض عقوبات على 6 شركات سودانية، ثلاث منها مملوكة لقوات الدعم السريع، وثلاث مملوكة للقوات المسلحة السودانية. الشركات الست متهمة بتقديم الأموال والمساعدات اللوجستية للقوات المتقاتلة. وكانت الولايات المتحدة قد أعلنت أيضا عقوبات على أربع من هذه الشركات.
ماذا فعلت قمة دول الجوار؟
من الطبيعي أن تتصدر مصر المشهد الدبلوماسي في عملية إحلال السلام في السودان، نظرا للتاريخ المشترك بين البلدين، والمصالح الاقتصادية المشتركة التي تمتد مع امتداد نهر النيل بينهما، وكذلك الامتداد البشري السوداني في مصر، الذي يجعل المجتمع السوداني في مصر بمثابة «السودان الآخر» خارج السودان، وحيث تستضيف مصر أيضا أكثر من نصف اللاجئين السودانيين الذين هربوا من جحيم حرب البرهان وحميدتي. كذلك يعتبر التنسيق الدبلوماسي بين مصر والسودان في شأن حل مشكلة سد النهضة الإثيوبي، من أهم قنوات التعاون المشترك، التي استمرت مفتوحة لسنوات طويلة منذ حكم البشير حتى الآن. وقد سجلت قمة دول الجوار التي شارك فيها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، للمرة الأولى منذ نشأ النزاع، اتفاقا ثنائيا بين مصر وإثيوبيا، على أعلى مستويات السلطة التنفيذية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي، لاستئناف مفاوضات سد النهضة. ويبدو من القراءة الأولية للإعلان الصادر بهذا الشأن، أن إثيوبيا تمسكت بأن تستأنف المفاوضات بعد بدء عملية الملء الرابع لبحيرة سد النهضة، وبذلك يكون الجدل حول إنشاء السد، أو بشأن ترتيبات ملئه قد أصبح في خبر كان، ولم يعد له محل من الإعراب؛ فالسد تمت إقامته وأصبح أمرا واقعا، وعملية ملئه تم اختبارها دون تدخل من أطراف خارجية، لا مصر ولا السودان ولا دول حوض النيل. ومن ثم فإن موضوع استئناف المفاوضات أصبح ينحصر في عملية تشغيل السد، وضمانات عدم الإضرار بدول المصب. وربما كانت تلك هي النتيجة الأولى للقمة، رغم أنها تمت على هامشها. وحققت القمة عددا من النتائج الأخرى، منها إنها جمعت معظم دول الجوار معا حول مائدة واحدة، وهذا إنجاز في حد ذاته، كما تم إعلان التوافق على مبادئ أساسية للعمل على إحلال السلام في السودان، وهو ما يلقي على دول الجوار نفسها مسؤولية ثقيلة. واتفقت الدول المجتمعة على إنشاء آلية لإدارة المبادرة على مستوى وزراء الخارجية، تحت مظلة القمة التي قد تُعقد دوريا أيضا. وأظهرت القمة روحا جادة في العمل المشترك من أجل إحلال السلام في السودان، لمصلحة الشعب السوداني، وعودة اللاجئين والنازحين. ومع ذلك فإن نجاح مبادرة دول الجوار على ممارسة دبلوماسية نشيطة ومؤثرة لإحلال السلام في السودان يتوقف على قدراتها المتاحة للتأثير في سلوك اللاعبين الرئيسيين في الحرب السودانية، وإقناعهم بوقف القتال، وأن العملية السلمية هي الطريق الأفضل والصحيح لتسوية النزاعات. وقد يكون لبعض دول الجوار نوع من النفوذ المعنوي على بعض الأطراف، لكنها بالتأكيد لا تملك قدرات تمكنها من ممارسة نفوذ مادي، لا من أجل الترغيب، ولا من أجل الترهيب، بما يكفي لجعل هذه الأطراف تفكر ولو لمرة واحدة في تغيير سلوكها. وتحتاج دول الجوار أولا للاتفاق على تحديد سلة من أدوات الترهيب والترغيب، التي يمكن أن تستخدمها في ترويج دبلوماسية إحلال السلام في السودان سياسيا وليس بالقوة الغاشمة، وإذا كان الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول الجوار سينعقد قريبا في العاصمة التشادية نجامينا، فإن المهمة الأولى لهذا الاجتماع هو أن تتفق الدول المعنية على الأدوات التي ستتعاون على استخدامها من أجل إقناع الأطراف المتحاربة بوقف القتال، والموافقة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. وهي عملية شاقة تحتاج إلى كثير من الوقت والتفكير.
التحديات الرئيسية
إضافة إلى تعدد مبادرات الحل السلمي في السودان، الأمر الذي يعكس تنافسا إقليميا بين دول المنطقة، يضعف كل هذه المبادرات، فإن دبلوماسية السعي لوقف الحرب، وإغراء الأطراف أو الضغط عليهم للدخول في عملية سلمية يواجه أربعة تحديات رئيسية، تحتاج إلى مواجهة جادة، وإلا فإنها تمثل قيودا ثقيلة على احتمالات نجاح تلك المبادرات.
من الملاحظ أن حروب السودان منذ الاستقلال تطول، لدرجة أنها تتحول تقريبا إلى «حروب منسية» بعد أن يصاب العالم بالملل من مشاهدة فصولها المتكررة
التحدي الأول، هو أن استمرار شرايين الإمدادات إلى الجماعات المسلحة غير الحكومية، يضع العملية السياسية المستهدفة رهينة لهذه الجماعات، ويهدد فرص إطلاق عملية سياسية جادة. وتتمتع هذه الجماعات بدعم دول إقليمية افريقية وعربية، لها مصالح قوية في السودان والدول المجاورة. ويقوم بعض هذه الدول بإمداد الأطراف الحليفة بالسلاح والمال، أو بالمال اللازم لشراء السلاح في السوق السوداء لتجارة السلاح المنتعشة في افريقيا، على خلفية تهريب السلاح من أوكرانيا، وازدهار أعمال شركات عسكرية، أو جماعات عسكرية غير حكومية في افريقيا، مثل «فاغنر» و»داعش» و»القاعدة» والتنظيمات الأخرى المتفرعة عنها. ومن ثم فإن العقوبات الإقليمية والدولية تمثل سلاحا رئيسيا لإضعاف شرايين الإمدادات للقوى المتحاربة.
التحدي الثاني، هو افتقاد دول الجوار لأدوات ضغط حقيقية على الجماعات المسلحة غير الحكومية في السودان، وتداخل مصالح هذه الجماعات مع جماعات مماثلة في دول الجوار، مثل ليبيا وتشاد. وهذا يعني أن باب التدخل الخارجي سيكون مفتوحا على مصراعيه، باستثناء التدخل العسكري، وهو أمر لا ترغب فيه القوى الخارجية. لكن انقسام القوى الخارجية الرئيسية لا يعزز احتمال إحلال السلام، بقدر ما يعزز انتقال الحالة الليبية إلى السودان، من حيث تعدد واختلاف اتجاهات التدخل الأجنبي، وامتداد أجل القتال.
التحدي الثالث، يتمثل في انهيار بنية الدولة في السودان، وضعف شرعية وجود الجيش في السلطة، منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2022. وتكشف الصورة الحالية للصراع، أن العسكريين الذين أطاحوا بالمدنيين، تحكمهم أطماع السيطرة على السلطة والاستبداد، وأنهم تحولوا بسرعة، خلال أشهر قليلة، إلى مجرد جماعات للمصالح الخاصة المتصارعة ولا علاقة لها بمصالح الشعب السوداني.
التحدي الرابع، هو الطابع القبلي للحرب، والخبرة التاريخية للحروب السابقة في السودان، تركت ميراثا مؤلما لدى جماعات قد تجد في استمرار الحرب فرصة للانتقام من مظالم تاريخية تعرضت لها، بما في ذلك في دارفور وكردفان.
المعضلة في مبدأ رفض التدخل الخارجي
يعيش السودان حروبا مستمرة تقريبا منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي حروب تعكس أزمة الهوية، وفشل الدولة القومية في صهر الجماعات العرقية والدينية المختلفة داخل بوتقة واحدة، وتشكيل ما يمكن ان نطلق عليه «القومية السودانية». ومع انفجار الحرب، تحولت الهوية السودانية إلى مجرد رابطة شكلية، تعبر عنها بطاقة هوية أو جواز سفر. ومن الملاحظ أن حروب السودان منذ الاستقلال تطول، لدرجة أنها تتحول تقريبا إلى «حروب منسية» بعد أن يصاب العالم بالملل من مشاهدة فصولها المتكررة. وقد تتحول الحرب الحالية بين البشير وحميدتي إلى واحدة من تلك الحروب المنسية، وهو ما يفتح احتمال زيادة الخسائر، واتساع نطاق المعاناة للشعب السوداني لسنوات طويلة مقبلة، بل تقسيم السودان إلى عدة دويلات، إذا لم تتدخل قوى خارجية لديها من القدرة والمصلحة ما يكفي لفرض وقف القتال، والدخول في عملية سياسية لإحلال السلام في هذا البلد العربي الغني المنكوب بحكم العسكريين، والقبيلة، وسيطرة القوة الغاشمة، ومصادرة الحياة السياسية. المعضلة هنا هي أن فتح الباب للتدخل الأجنبي لتعويض عجز المبادرات المحلية والإقليمية من المرجح أن يؤدي لتعقيدات أشد، قد تنتهي بتحويل السودان إلى ساحة لحروب بالوكالة تتداخل فيها مصالح قوى مختلفة عربية وغير عربية.
كاتب مصري