الدبلوماسية والدبلوماسي العربي: الشكل والجوهر

حجم الخط
1

تعرف الدبلوماسية، بالتحديد الكلاسيكية، على أنها ذاك النهج السياسي ذو الاساليب والمضمون السري، الغامض، البطيء والمعقد. من خلالها يصبو أهل السياسة الى التوصل لحلول مضمونة وذات فاعلية دائمة لأي صراع. كذلك تعرف بأنها الحرب ولكن بطرق أخرى، طرق تمتاز بنوع من الانضباط في التعامل وهدوء في التعبير. عربياً، الدبلوماسية تمتاز ببعض من هذه السمات، إضافة إلى ندرة النتائج وكثرة الابهة والبذخ الزائد. كل من يقترب من الدبلوماسية العربية يلاحظ تمحورها نحو تلك المفاهيم والأساليب المعروفة وغير المستوعبة، لكونها مبهمة ومتأرجحة بين ما هو سري وغامض وما هو رمادي وكاتم. لكن، وبسبب كثرة التحركات الدبلوماسية وقلة النتائج، ينظر على أنها عمل شكلي لا يقدم نتائج ملموسة، خاصة وقت الشدة والحاجة. وما حال القضية الفلسطينية والثورة في سورية سوى مؤشر واضح مرتبط بهذه النظره، فرغم الكم الهائل من الجولات، المؤتمرات، الندوات، المفاوضات، اللقاءات والمحادثات، فإن النتيجة النهائية مازالت صفرا.
التمسك بالأسلوب والمضمون المعتاد خلق انطباعا مفاده أن من يعمل في السلك الدبلوماسي ليس سوى موظف عاجز عن الوفاء بمعظم التزاماته المتعلقة بقضايا وهموم الإنسان العربي الذي يمثله. في أي لقاء مفتوح أو مغلق يوصف الدبلوماسي بأنه شخص غير قادر على تحمل المسؤولية بجدارة، وأنه ذو مهام ضبابية يهوى الغموض ويعشق التباهي بالسرية. هذا ما يجعله في وضع معاكس للدبلوماسي الحديث الذي يمتاز بالشفافية، المرونة والفاعلية. مشكلة الدبلوماسي العربي هو قناعته بأنه يجب أن يعمل لخدمة الحكومة أو النظام، الذي يختاره للمنصب قبل واجب الدفاع عن مصــــالح البلد والمواطن. هذه المشكلة تجعله حريصا كل الحرص على إظهار الغيرة الزائدة على سمعة القائد وحماية الحكومة أو النظام من النقد الرسمي والاعلامي. في المقابل، لا تراه يبالي حين يكون التشويه والتجريح موجه ضد تقاليد، قيم ومعتقدات هذا البلد أو ذاك الشعب، ناهيك عن قيم الأمة المشتركة. هذا ما يفرض على الشعوب التحرك بنفسها أمام أي فعل يخدش هذه القيم، مثل ما حدث في الدنمارك وهولندا، حين تم تشويه صورة الرسول الكريم. لو أن الدبلوماسي العربي بهذا أو ذاك البلد تحرك بفاعليه لما تجرأ أحد على العبث بما هو مقدس أو غير مقدس، ولما هاجت ونزلت الجماهير الى الشوارع لتملأ الفراغ. مثل هذا النوع من الاعتداءات تحصل يومياً ولا يحرك الدبلوماسي العربي ساكناً. هو دائماً في انتظار قرار يأمره حرفياً ونصياً بما يجب فعله. هذا ما يجعله موظفا آليا لا يفكر او يتحرك إلا رهن الإشارة.
اضف إلى ذلك، أن معظم أبناء الجاليات العربية في الغربة، خاصة أبناء الشعوب المسحوقة والملاحقة سياسياً، يشعرون بأنهم نسي منسي من قبل الدبلوماسي الذي جاء أصلاً من أجل أن يمثلهم ويحافظ على مصالحهم ومصالح بلدهم. نسبة هائلة من هؤلاء يفضلون الطًرق على أبواب جهنم قبل الاقتراب من أبواب سفارات بلادهم، لما تضمه هذه من موظفين لا يمتون بصلة للدبلوماسية ولآدابها وأهدافها النبيلة. يومياً، هنالك مئات الآلاف من الرجال، النساء والعائلات العربية، في الشرق والغرب، تائهون بين السجون والمطارات، ومنهم من يموت في الشوارع، الملاجئ والمستشفيات، بدون أن يتعرف أو يسأل عنهم أحد. أو بالآحرى، لا يريد أن يتعرف وأن يسأل عنهم أحد. حتى الدول المستقبلة لهم تعاني من عدم مقدرة الكثير من السفارات والقنصليات العربية من تقديم الحد الأدنى من الخدمات الانسانية المستحقة، تحت حجة ضعف الميزانية. مع ذلك الأموال تتدفق حين تلزم لتنظيم الحفلات وتوزيع الهدايا. في المقابل، ليس هنالك عمل دبلوماسي منظم لحماية هؤلاء الشباب والشابات، وإن كان فهو فعل ناتج عن نخوة شخصية يقوم بها هذا أو ذاك.
رغم الكم الهائل من السفارات والقنصلــــيات، يصعــــب أن تجد توافقا بينها وبين الجمعيات الخــــيرية، وذلك بحكــم الهاجس الأمني والحساسية المتبادلة الراسخة في ذهن كلا الطرفين، حتى حين يتعلق الأمر بالعمل في الشؤون الإنسانية البحتة.
باستثناء من رحمه ربه وأملى عليه ضميره الإنساني القيام بعمل ما، الدبلوماسي العربي يحاول البقاء بعيداً عن المشاكل التي يعاني منها أبناء جاليته، ناهيك عن باقي الجاليات، كما وكأنه يشعر بنوع من النقص أو الخجل يمنعه من الاقتراب، رغم أن واجبه يفرض عليه متابعة قضاياهم وعدم التعامل معها من منطلق رسمي أو أمني بحت. الغريب أن الدبلوماسي ينشط حين يكون ابن البلد الذي يعاني شخصا ينتمي للطبقة الحاكمة أو له علاقة بشخصيات نافذة في أجهزة الدولة، وأن حالته يمكن أن تتحول لمادة إعلامية، حينها يتحرك الدبلوماسي ويحرك الأمور بسرعة ليثبت كفاءته وانتماءه لمن تفضل وقام بتعيينه.
هنالك انطباع مفـــاده أن كثــــيراً من السفارات ليست سوى اوكار أو كهوف يدور في فلكها من له مصلحــة خاصة ويبتعد عنها من لا يريد أن يكون تحت المراقبة أو الابتزاز. العكس يحدث في سفارات الدول المتقدمة، فبداخلها يشعر المواطن بالطمأنينة، الحماية والانتماء الفعلي لبلده، لما يلاقيه من رعاية تامة من قبل العاملين فيها، الذين يحرصون اساساً على راحة المواطن ويعملون بكفاءة عالية لرفع المستوى السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي لبلدهم، وذلك من خلال التقيد بمعايير دبلوماسية راقية قائمة على الانفتاح والتفاعل المتبادل مع متطلبات البلد الذي يعملون فيه ومع أبناء الوطن، بغض النظر عمن يحكم هنا أو هناك.
باستثناء الدبلوماسيين المقيمين في الدول الكبرى أو تلك الدول التي ترتبط بها بلادهم بعلاقة سياسية خاصة، فمن النادر أن تجد دبلوماسيا عربيا متعمقا حقاً في الحياة السياسية، الاجتماعية والثقافية للبلد المقصود. تراه لا يعرف من الشخصيات المؤثرة والفاعلة سوى القلة النادرة، ويتركز انتباهه على تلك الشخصيات ذات البعد السياسي والاقتصادي المرتبط بمصالح مباشرة مع بلاده. وفي كل الاحوال، يكتفي ببعض العلاقات السطحية ولا يكترث في الاقتراب من الشخصيات ذات التأثير الجانبي على مؤسسات الدولة. مشكلة التحدث بطلاقة بلغة البلد الذي يعيش فيه، هي واحدة من أهم العراقيل التي تمنع معظم الدبلوماسيين العرب من التعرف على عادات، تقاليد، فكر وهموم البلد الذي يعملون فيه. يكتفون بالتحدث بأي من اللغات المتداولة عالمياً، خاصة الانكليزية أو الفرنسية، قبل التعرف على اللغة الاصلية، بل يعتقدون بأنهم من خلال موجز، نشرة أو مقال صحافي على مقدرة لاستيعاب طريقة عمل مؤسسات الدولة وتركيبة وفكر المجتمع وتعقيداته.
التاريخ الدبلوماسي العربي حافل بالشخصيات التي جمعت واشتهرت معاً أدبياً ودبلوماسياً، أمثال العراقي أمين المميز، اللبناني خليل تقي الدين، السوري عمر أبو ريشة، الفلسطيني وائل زعيتر، السعودي غازي القصيبي والمغربي عبد الهادي التازي. أمثال هؤلاء أصبحوا حالة نادرة في تاريخ الدبلوماسية العربية المعاصرة.
أمام هذا الوضع السلبي العام، يجب على مراكز أخذ القرار تجاوز أساليب ومفاهيم الدبلوماسية الكلاسيكية. وهي في حاجة لصياغة والعمل حســــب أساليـــب ومفاهيم الدبلوماســية الراقية القائمة على المــــرونة، الشفافية والتفـــاعل المتبادل من أجل الوطن والمواطن. ليتم ذلك، من الأجدى اختبار شخصية وسلوك الدبلوماسي قبل تنصيبه لأي مهمة، كذلك تحريره، قبل تنصيبه، من عقد وكوابيس الدبلوماسية المتحجرة القائمة على الغموض وخدمة القائد والحاشية. إن لم يتم التجديد بهذا الاتجاه ستبقى الدبلوماسية العربية، كما يعتقد حالها الآن، شكلا بلا جوهر.

‘ كاتب فلسطيني مقيم في إسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سي عبيد:

    معظم الدبلوماسيين العرب هم من أهل الثقة، حتى مع تأهيلهم. المشكلة أن مفهوم الثقة يصعب الغوص فيه وسبر أغواره و أطيافه الكثيرة والمتداخلة. مقال ممتع

إشترك في قائمتنا البريدية