أحسد كل من استطاع الابتعاد عن السوشيال ميديا، ومن بينهم الشاعر عبد المنعم رمضان صديق العمر وصديق أيام الأمل، الذي هو واحد من أبرز شعراء السبعينيات وكتّابهم. لقد قرأت منذ وقت بعيد تعليق للكاتب أمبرتو إيكو عن فيسبوك وكيف هو مجال للحمقى، لم أقتنع كثيرا بهذه المقولة لأني رأيت مبكرا في فيسبوك مساحة للأخبار السريعة، ولا أنسى دوره في ثورة يناير/كانون الثاني، سواء من حشد للثورة أو متابعة أحداثها كل يوم وكل ساعة. لن أطيل فكل ذلك في كتابي «أيام التحرير». كانت خمس سنوات تقريبا مضت على ظهور فيسبوك، وأقل منها على ظهور تويتر أو» الإكس» الآن. لكنهما كانا عاملين حاسمين في الثورة التي لم تكن حماقة أبدا. شاءت الظروف أن أستمر في متابعة السوشيال ميديا، ليس بسبب الاستقرار الشكلي للبلاد، لكن بسبب الفراغ الذي أعيشه، فلا عمل منتظم لي في أي مكان يمكن أن يشغلني، والوقت متسع أكثر مما أكتب أو أقرأ، ولم أعد قادرا على مغادرة البيت كثيرا، ما جعلني أرى الحماقة التي تحدث عنها إمبرتو إيكو، وسأكون أكثر لطفا منه وأقول الجهل.
كثير جدا من التعليقات أو البوستات تكشف لنا حالة التردي الفكري في المجتمع، وتكشف لك المحصول السيئ للتعليم والثقافة، وكيف لصاحب الرأي عدم القدرة على اعتبار ما يقوله مجرد رأي، يمكن أن يتفق أو يختلف معه غيره، بل يرى رأيه هو النهائي ولا سبيل حتى لمناقشته، وإلا سيتم اتهامك أنت بالجهل. صارت مصطلحات كثيرة تهما، على رأسها العلمانية، فهي تعني في نظر الكثيرين الكفر والإلحاد. لا يناقش أحد من هؤلاء قط أهمية فصل الدين عن الدولة ومعناه، والثورات التي تمت في العالم لتحقيقه، وعلى رأسها الثورة الفرنسية عام 1789. صارت الفنون، خاصة الفن التشكيلي والسينما عند البعض، رجسا من عمل الشيطان، خاصة حين تكون اللوحة لامرأة، أو يكون في الفيلم مشهد حميم في العلاقة بين الحبيبين. أعرف أن ذلك نتاج خمسين سنة من الفكر الديني المتخلف الذي ملأ المساجد يوما، برعاية الدولة الديكتاتورية، ولا يزال إلى حد كبير، وملأ أيضا فصول التعليم، ولا يهمني منه إلا أنه كاشف لكارثة وصوله للأجيال الجديدة التي لا يراها أحد إلا في فيسبوك وتويتر، والتي لا يفكر أحد في عمل دراسة اجتماعية، من خلال ما يتم نشره من بوستات أو تغريدات لما وصلت إليه ثقافتنا الروحية، التي بلا شك لها تأثيرها في ثقافتنا المادية، من أزياء وطرق وحدائق وغيره. كل ذلك أنا أتفهمه ولا أدخل مع أصحابه في جدل. أمر على تعليقاتهم كأني لا أراها، وأشغل نفسي بدقائق قليلة أدخل فيها صفحة صاحب التعليق، فأفهم توجهه الفكري وابتعد عنه. طبعا ميزة فيسبوك أو تويتر هي إمكانية الحظر أو الإخفاء للتعليق، أو صاحبه نفسه، وأفعل الإخفاء أكثر مما أفعل الحظر ولا أشغل نفسي بقراءة ما لا أحب.. لا أرد على أحد.، لا أستخدم ألفاظا جارحة يستخدمونها، فالسوشيال ميديا أتاحت للكثيرين فرصة السب والقذف، وهي بدورها تعكس حالة من التردي الفكرى والتربوي، ولا أعرف لماذا لا يتجاهل أصحابها ما لا يعجبهم كما أفعل. لا أجد هنا غير التربية وراء الفعل، هنا تظهر لي صحة مقولة أمبرتو إيكو عن الحماقة التي أخفف منها بكلمة الجهل.
أحيانا أشعر بالضيق، خاصة حين تكون التعليقات والشتائم موجهة لي، لكني في النهاية إعود إلى إيماني بأن ما تكتبه على صفحتك العامة لم يعد ملكا لك، والأفضل تجاهل ردود الأفعال من هذا النوع، وإن ظلت في الحلق غصة من تدني مستوى التربية الاجتماعية. هذا كله في النهاية مثل دخان سيحتويه الفضاء بالنسيان، لكن سؤالي عن الجامعات وأقسام علم الاجتماع، هل يمكن أن تقوم بدراسة لهذه الظاهرة، لتعرف مثلا حالة المجتمع الفكرية والأخلاقية. ما هي السمة الغالبة على فكر الأجيال الجديدة عن المرأة مثلا، رغم تاريخ الكفاح من أجل حريتها والمساواة مع الرجل. ما هو الفرق بين ثقافة العلن وثقافة «الأندر غراوند» التي غزت صفحات الميديا وصارت في العلن، خاصة في ظواهر مثل الغناء. ما هو تأثير اللجان الإلكترونية على استقرار النظام السياسي، هل حقا صارت التفاهة هي عنوان العصر، ما هي حدود الكذب والحقيقة في حياتنا.. إلى أيّ مدي صارت ثقافة «الترند» تشغل الكثيرين من المثقفين والمطربين والإعلاميين، فيصدحون بما لا معنى له من حديث وأفكار، ويظهرون بمظهر لا يمت إلى عالم الأزياء والموضات في العالم المتحضر، مدركين أنهم سيجدون هجوما واسعا يجعلهم في مقدمة المشهد، وللأسف يتحقق ذلك. المدهش أن أكثر ما يحققونه يقولون إن من يهاجمونه يتعمد ذلك الحديث أو المظهر، من أجل «الترند» ويكون السؤال كيف وأنتم تدركون ذلك تقومون بما يحقق هذا «الترند». هنا تطل التفاهة كعنوان لهذا العصر. ليست تفاهة من يسعون للترند فقط، لكن تفاهة من يحققون الترند بالهجوم والسخرية، وكان الأولى بهم تجاهله. جوانب كثيرة يمكن دراستها في جامعاتنا في أقسام الدراسات الاجتماعية والنفسية أيضا.
ظاهرة أخرى أقف أمامها، وهي أكثر إيلاما من السابقة، حالة البعض من الكتّاب والأدباء من الأصدقاء والمتابعين ممن يلومون الآخرين، حتى لو بغير وضوح . لقد أعطت الحياة كل منا فرصة الالتقاء بالكثيرين، ولمن هم مثلي أعطت الفرصة أكثر بحكم العمر ومرور الزمن. من هنا تأتي حيرتي. بعض ممن يكتبون يظهرون دائما أبرياء. هل سيظهرون غير ذلك على السوشيال ميديا؟ أندهش وأتذكر ما كتبته يوما في روايتي «في كل أسبوع يوم جمعة» أن كل الناس على فيسبوك أبرياء فمن الذي يصنع الشر في هذا العالم؟ يبدو هنا بالذات أنه من الأفضل أن أحتذي حذو الشاعر عبد المنعم رمضان وأبتعد عن السوشيال ميديا، لكنه بالنسبة لي قرار أعجز عن اتخاذه، فالبيت هو ملاذي الآن. أرى فائدته أني أنشر مقالاتي على صفحتي بعد أن تُنشَر في الصحف أو المواقع، التي معظمها محجوب في مصر الحلوة، وأقول انتظر فهذه فائدة مهمة. لا أقوم بأي إشارة إلى أسماء حتى لا أشغلها بي، فالصفحة مفتوحة لمن يريد أو تقع في طريقه، وهو حر يقرأ أو لا يقرأ. أنا على يقين من أن أصحاب الإشارات دافعهم المحبة والثقة في من يشيرون إليه، لكني مجنون مؤمن باتساع الحرية. أتذكر اسماء عظيمة أيضا أقابلها، عليه لا أستطيع أن أذكرها كلها لأني سأنسى بعضهم ليس عمدا طبعا، وسأجد لوما من غير الأسماء العظيمة كأني روبوت يحتفظ بكل المعلومات ولا ينسى. أيها الرفاق رفقا بنا وببعضنا. ابتعدوا عن التسرع. أجل.. أقول التسرع تشخيصا لحال بعض الأدباء، ولا أقول النية والقصد. ما الفارق بين جاهل ومثقف في السوشيال ميديا، غير أن المثقف لا بد له قبل التعليق على شخص أن يعرف من هو وماذا سبق له أن كتب، هذا النوع من السلوك يحتاج نوعا آخر من الدراسات هو الدراسات النفسية. هل هو نوع من الإزاحة مثلا يلقي صاحبها بما يشعر به من تقصير أو ضعف على الآخرين. ربما، لكن لماذا يختار الذين لم يقصروا يوما فيلمح باللوم لهم. يتميز المثقف، أو هكذا أتصور، أنه يعرف أن ليس كل إنسان يعيش مثله.. ويدرك أن ظهور كاتب بنشاط على السوشيال ميديا ليس معناه دائما أنه في كامل صحته، فكيف يتجاهل البعض ذلك، كيف لا يدرك أن الكاتب الذي يراه نشيطا، قد يفعل ذلك لأنه يريد أن يمر الزمن حتى يصعد إلى السماء، ويخرج من هذه البلاد المنكوبة.
روائي مصري