الدكة قرية مصرية منسية انتصرت على الرومان

حسام عبد البصير
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»:  شاءت الأقدار لأهالي قرية الدكة أن ينافسوا لسنوات على المقعد الأخير لأفقر قرى مصر، بل حصلوا من قبل على اللقب بجدارة. فطيلة سنوات حكم الرئيس الراحل مبارك الثلاثين، لم يزرهم مسؤول ولم يطرق بابهم ساعي بريد يمثل الحكومات المتعاقبة من قبل حتى نسوا أنهم رعايا تلك الدولة على الرغم من كونهم أقدم من سكنوا بلاد النوبة. زائرهم الوحيد ظل على الأرجح عبد الله أو كما يسميه العوام عن أثر منقول عن الإسرائيليات «عزرائيل».

من يتردد على القرية لا يحتاج لمسوغ على ان التاريخ توقف هنا منذ عقود بعيدة، فالأوضاع التي يرزح تحتها غالبية السكان «تصعب على الكافر» بل إن نسبة الفقر بلغت في العقد الأخير من زمن مبارك حتى عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 90 في المئة. وظلت قرية التابعة لمركز نصر النوبة في محافظة أسوان تحتل مركز الأكثر فقرا على مستوى الجمهورية، حتى قبل ثلاثة أعوام مضت وحينما قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي إطلاق مشروع «حياة كريمة» الذي يستهدف نقلة حضارية لسكان آلاف القرى في جنوب البلاد وشمالها بدأت رياح التفاؤل الحذر تخيم على القرية.
تقع قرية الدكة، على بُعد 60 كيلو متراً شمال محافظة أسوان بأعالي الصعيد، وتشير الأرقام إن تعداد سكانها يقترب من ثمانية آلاف نسمة. ويمثل التكافل الاجتماعي المحور الرئيسي الذي تقوم عليه القرية، فالشباب الذي ولد في بيوت أغلبها حتى سنوات مضت بنيت من الطين سافر للعاصمة والمدن الساحلية لكي يساعدوا عائلاتهم، وبالأخص أولئك الذين ابتلوا بأمراض مزمنة أبرزها الفشل الكلوي، ويوجد بالقرية سبع حالات كلها تعالج بالجهود الذاتية، كما يتم تقديم المساعدات للأسر ذات الظروف الاجتماعية القاسية وللأرامل على وجه التحديد اللواتي يعلن أطفالاً في عمر الزهور من خلال جمعية القرية ودار الضيافة، إضافة إلى «شنطة رمضان» التي تمثل أحد أبرز علامات التكافل الاجتماعي. ويطالب الأهالي بإنشاء مدارس عصرية للقرية للقضاء على كثافة الفصول، وحتى سنوات مضت لم يكن في القرية سوى 12 فصل ملحق بها 3 فصول إعدادي مشددين على أنهم خصصوا الأرض التي تنتظر من يقوم ببناء المدارس عليها.

البحث عن أمل

يتذكر الكبار من أهالي الدكة قريتهم ويروون لأطفالهم كم كانت صورتها في الماضي أكثر جمالاً وإشراقاً، كما ان أحلام أهلها في الغالب لا تتجاوز بيوتهم وباتوا لا يطمحون سوى ستر الفتيات من خلال تجهيزهن للزواج من ابن الحلال، كما انها باعترف بعض الكبار والصغار من المقيمين بها بات ماضيها أفضل من حاضرها. بهذه الكلمات يعترف عبد الحميد أحد الطاعنين في العمر، بالواقع القاسي الذي يواجه القرية ذات الماضي العريق والتي يعرف كل فرد من المقيمين بها العائلات الأخرى إذ تمثل العلاقة الوطيدة بين مختلف الأهالي أهم كنوزهم، مشيرا إلى أن القرية القديمة كانت تتسع بأهلها الذين لا يريدون علواً في الأرض بل فقط النجاة من الديون والأمراض وامتلاك ما يجعل الحياة أكثر احتمالاً. كما توجد بها عوامة صحية ومستشفى تابع للإرسالية الألمانية ومدرسة بها قسم داخلي للطلبة بالتغذية، وكان هناك مشروع ري وكهرباء، لكن واجه العقبات، أما الزراعة فكانت تمتد لتصل إلى 3 كيلو على الشاطئ وقت الفيضان وكان بها حدائق المانغو الغناء تفيض بإنتاجها وتمثل مصدر دخل للبعض. حيث كانت الدكة أكبر قرية منتجة للمانغو على ضفاف النيل وكانت تصدر إنتاجها للعاصمة، غير انه أخذ في التراجع تدريجياً. ومن بين ما تشتهر به التمر والذي تجود زراعته في صعيد مصر خاصة أسوان، ومن أبرز ما يتفاخر به أهالي القرية انها تضم العديد من الشهداء الذين شاركوا في حرب أكتوبر 73 وحرب67.

وعدك ياريس

تسلل الأمل للقرية التي تشتهر كالعديد من القرى بنوم أهلها مبكراً، على إثر إطلاق الرئيس عبد الفتاح السيسي مشروعه الذي يعقد عليه فقراء القرى آمالاً عريضة تحت عنوان «حياة كريمة» وينتظر سكان الصعيد والدلتا أن يرى المشروع النور كي ينتقلوا من حياة القرون الوسطى لحياة عصرية يلتقطون فيها أنفاسهم ويستطيعون أن ينعموا ببعض متع حياة أهل المدن. وفي الدكة لا حديث يغلب سوى إعلان الرئيس عن المشروع المنتظر، تلك المبادرة التي سيبدأ تطبيقها في 100 قرية كطوق نجاة لأهاليها الذين ظلوا يعانون على مدار عقود بعيدة من نقص الخدمات وانتشار البطالة وتدني مستوى العيش فيها. وليس غريبًا أن يكون أكثر من 95 في المئة من هذه القرى في الصعيد عانت على مدار عقود طويلة من الإهمال والفقر والمرض فضلا عن وحش البطالة الذي يحيل الملايين لمزيد من البؤس والشقاء. وتم الإعلان عن 7 قرى بمحافظة أسوان ضمن الأكثر فقرًا على مستوى الجمهورية، ومن بينها قرية الدكة ومن المقرر ان يشملهم المشروع.
مثل طعامهم القليل جاءت كلماتهم قليلة وعباراتهم يتوارثونها فيما بينهم أباً عن جد: «كل يوم قبل النوم بادعى أني أصحى بأمان وبدون خسائر أو إصابات» بهذه العبارة التي وردت على لسان الحاجة زينب من أهالي الدكة وقالت إن منزلها مهدد بالانهيار في أي لحظة بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية لعدم وجود صرف صحي، وأضافت «إننا نعاني من هذه المشكلة منذ 10 سنوات وجاءت أكثر من لجنة وعاينت منازل القرية ووعدت بمساعدتنا وحتى الآن لم يحدث شيء». بشق الأنفس نجح عدد من كبار السن من بين الأهالي بالدكة في الحصول على معاش الضمان الاجتماعي البالغ 450 جنيها «حوالي 29 دولارا» حيث يمثل بالنسبة لهم وقودا يعينهم على الحياة شريطة ابتعاد مفاجآت الأيام ونوائب الدهر. ويحفظ الكثير من الأهالي الدعاء المأثور «اللهم إنا نعوذ بك من طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير» ويمثل معاش الضمان رغم تواضعه الشديد مصدر معيشتهم، إذ لا توجد أي فرص عمل بالقرية حتى الأراضي الزراعية التي كان يعمل فيها الشباب باليومية بعد زيادة عدد السكان أصبحت تضيق بأهلها فلا يجدون من يستعين بهم في فلاحتها.

قرى القرون الوسطى

ويعترف عبد الحميد أحد أبناء الدكة بأن الأزمة في القرية لا تحتاج للوصف فمن يهبط عليها يدرك للوهلة الأولى بأنه أتى لقرى القرون الوسطى «الناس ينامون بحلول الظلام» حيث تتحول القرية لقبر كبير لا مكان فيه إلا للاستغراق في الأحزان وانتظار ما لا سيأتي في الغالب ويتابع: نواجه نقصاً في الخدمات كافة فلا شيء ينتمي للحضارة هنا. فلا توجد بالقرية سوى مدرسة ابتدائية وفصول ملحقة بالمدرسة الإعدادية، ما جعل كثافة التلاميذ بالمدرسة في ازدياد مطرد. ويحيا سكان قرية الدكة شأن غيرهم من أهل القرى على أمل ان تهتم الحكومة لحالهم بعد ان تعهد الرئيس السيسي بالقضاء على الفقر ومنحهم منازل عصرية ليشعروا بآدميتهم، لاسيما أن أغلب منازل القرية معرضة للسقوط لقدمها ولكونها مصنوعة من الطين والبوص وبسبب ارتفاع منسوب مياه الصرف الصحي، باتت عرضة لأي كارثة. وهجر شباب القرية ذويهم بحثا عن فرصة عمل، بعد ارتفاع معدلات البطالة، وافتقار الأهالي للخدمات الصحية في ظل عدم انتظام وجود الطبيب في الوحدة الصحية. يعترف الأهالي هنا ان المشاكل في معظم القرى متشابهة غير ان أهم ما يواجه قريتهم مشكلة الصرف الصحي لذا يحدوهم الأمل على حل عادل يعيد لهم بعضاً من حقوقهم المنسية والتي سبقتهم إليها البشرية جمعاء. هذا ما أكده من يجيدون القراءة والكتابة من أهالي القرية فغالبية منازلها على سبيل المثال مبنية من الطوب اللبن، وارتفاع منسوب مياه الصرف الصحي يهدد المنازل بالسقوط بين لحظة وأخرى، في ما السواد الأعظم من الأهالي يعتمدون على نظام الصرف الصحي البدائي «الطرنشات القديمة» التي تحتاج للسحب شهريا، وهو ما يكلف الأسر مبالغ مالية لا يستطيعون تحملها فهي فوق قدراتهم المتواضعة.

العقرب النوبي

قرية الدكة كانت تعرف في الماضي السحيق باسم «سيليكس» وتعني العقرب، ولها أهمية تاريخية كبيرة، في مجال الحروب العسكرية حيث وقعت على أرضها معركة قادتها الملكة النوبية أماني – ريناس، ضد جيوش الرومان بقيادة بترونيوس عام (23 ق.م) ونجح الأجداد في هزيمة جيوش الرومان في المعركة. تمثل الهجرة للمدن حلاً شبه وحيد لكل من تتكاثر الأحلام بداخلهم من الشباب وهو الحل الذي يفطر قلوب الأمهات الثكالى «القرية أصبحت بدون شباب والمنازل لا يسكنها سوى النساء والأطفال» اولئك الذين يتغلبون على بؤس واقعهم بممارسة ألعاب بعضها من العصر الحجري. بروح منهكة وأمل يخبو ثم يبتعد كأنه ضوء سراج في مواجهة رياح عاتية يصف عبد الستار أحد أهالي القرية، كيف تحولت مشكلة البطالة لوحش جاثم على كل بيت واصبحت أحد أسباب تصنيف الدكة كأفقر قرية مصرية، بعد أن هجرها أبناؤها بحثا عن لقمة العيش. وأعرب عبد الستار عن ما يطمحون إليه من متطلبات بسيطة أبرزها إيجاد فرص عمل لشبابها، تحول بينهم وبين ان يهيموا على وجوههم في البلاد كافة ليعودوا إلى أرضهم ليعمروها ويعود لم شمل الأسر. وبنبرة حزن يقول إنه يعرف شبابا هجروا القرية للعمل ولا يشاهدهم إلا في المناسبات. حديث عبدالستار لم ينته دون الإشارة إلى المشكلة الأشد ضرراً وتتمثل في انتشار النمل الأبيض الذي يلتهم المحاصيل الزراعية وكذلك يعد عدوا لدودا للموبيليا وأبواب المنازل وسائر المنتجات الخشبية. عبد الكريم مزارع من أهالي القرية، أكد تردي الخدمة المقدمة في الوحدة الصحية، وأرجع الأمر لعدم وجود طبيب مقيم، مما يسفر عن مآس أقلها تعرض مواطنين كثيرين للخطر ما يضطرهم إلى الذهاب بالمرضى إلى أقرب مستشفى في كوم أمبو، والتي تبعد عنهم بنحو 10 كيلومترات أو مستشفى نصر النوبة والتي تبعد نحو 20 كيلومترا. وأكد أحد أبناء القرية وقد اعتذر عن ذكر اسمه ان الناس ظلت تحلم لعقود بمستشفى تحول بينهم وبين الموت لأتفه الأسباب، وعندما اقيمت ظلت مغلقة طيلة 10 سنوات، كما ان الوحدة الصحية بالقرية بها طبيب واحد غير منتظم في العمل، ما يجعل الإقامة في القرية مخاطرة حال مرض مفاجئ. بحزن يطال السماء حيث لا تكف الحاجة زينب طيلة عقدين على الأقل عن طلب المساعدة لأدنى مطالبها والمتمثل في ان يبقى «البيت على حاله» وألا يخونها وينهار فوق رأسها بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية. وتعترف زينب ان المشكلة التي تواجهها تعاني منها العديد من عجائز القرية اللواتي يحلمن بألا يتعرضن لمفاجآت وهن على وشك ان يسدل الستار على حياتهن.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية