بيروت ـ «القدس العربي»: الطبيب غسّان أبو ستّة، بات صوتاً بارزاً حاملاً لشهادات يتلوها عن جرائم الإبادة في غزّة. هو إنسان فرد، لكن حيويته في الدفاع عن وطنه تشبه المؤسسة.
غسّان أبو ستّة الغزّاوي والفلسطيني المنغرس في هموم شعبه شكّل حالة نادرة بانتخابه رئيساً فخرياً لجامعة غلاسكو التي تخرّج منها، إذ كانت نسبة المقترعين من الطلاب 80 في المئة، وهذا ما يعتبره بداية التغيير في أفكار الشباب لصالح فلسطين. وللمفارقة فإن أرثر بلفور (صاحب وعد بلفور) كان رئيساً فخريا لهذه الجامعة.
صندوق غسّان أبو ستّة (الخيري) يستعد لاستقبال الدفعة الأولى من الأطفال الجرحى من قطاع غزّة لعلاجهم في بيروت، في انتظار آخرين يتمُّ إعداد ملفاتهم.
«القدس العربي « التقت الدكتور أبو ستّة وكان معه هذا الحوار:
■ مُنعتَ من دخول ألمانيا لحضور «مؤتمر فلسطين». كيف تم التعامل معك في مطار برلين؟
□ صحيح كنت في صدد تلبية دعوة منظمة «الصوت اليهودي من أجل سلام عادل» وحركة «ديمي 25 «اليسارية الأوروبية في برلين. حطت الطائرة في العاشرة صباحاً، وعندما وصلت إلى صالة ختم الجوازات فتم الطلب مني الانتظار، وبعدها وصل اثنان من الشرطة وطلبا مني مرافقتهما، ووصلنا إلى غرفة في طابق دون مستوى الأرض في المطار. مكثت ثلاث ساعات ونصف، سُئلتُ خلالها من أنت وماذا تعمل؟
حدّثتهم عن تجربتي الأخيرة في غزّة. وأني شاهد في وحدة جرائم الحرب في سكوتلانديارد.
وشاهد في محكمة العدل الدولية، وشكّلت شهادتي جزءاً من المذكرة التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى المحكمة في لاهاي. وأني دُعيت إلى هذا المؤتمر لتقديم شهادتي. وبعد ثلاث ساعات ونصف على وجودي في هذه الغرفة أبلغوني منع دخولي إلى ألمانيا طيلة الشهر الرابع (نيسان /ابريل). ومنعي أيضا من الحديث عبر تطبيق زووم، وإرسال فيديو مصور إلى المؤتمر حتى وإن كنت في بريطانيا. وطلبوا مني حجز بطاقة سفر والعودة إلى لندن. وهكذا غادرت في الساعة السادسة مساء.
■ وماذا عن سلوك الأمن الألماني معك؟
□ لم يكن عدائياً مطلقاً، بل على العكس. شعرت بعدم قناعة الشرطي والضابط بما يقومان به، وأن لديهما أوامر وعليهما تنفيذها.
■ ولم ينعقد «مؤتمر فلسطين» بسبب محاصرة المكان قبل وصول المؤتمرين؟
□ شكلت محاصرته وعدم انعقاده إعلاناً أكبر بكثير من انعقاده في صالة مقفلة تضمّ فقط 500 شخص على أبعد تقدير، وسيغيب أثره عن 90 في المئة من (سكان) الكوكب.
وبسبب الارتباك والسلوك الألماني تحوّل (المؤتمر) إلى أهم حدث في يوم 12نيسان /ابريل.
وما كنا سنتداول به في المؤتمر ليس سرا، لكنه عبر إسكاته صار ابلغ من المتحدثين. فالصهيونية وخدمها مرتبكون جداً في لحظتنا هذه. لقد تغير العالم، وهم يفقدون سيطرتهم على السردية، وتوترهم يزداد.
■ المشافي كانت هدفاً أولاً للعدوان على غزّة. هل سيكون للمشافي الميدانية دورها في المرحلة المقبلة؟
□ بالتأكيد. بعد وقف إطلاق النار يجب ادخال عدد كبير من المشافي الميدانية. فالتدمير المنهجي طال كافة المشافي والمرافق الصحية. وعندها يمكن إصلاح المشافي المدمرة جزئياً. ومنها في الشمال المشفى الأهلي المعمداني، ومستشفى العودة في جباليا.
فيما مستشفى الشفاء لم يعد قابلاً للإصلاح. وفي الجنوب هناك مشفى شهداء الأقصى ومجمع ناصر الطبي، فالمشافي الميدانية تتيح تقديم الخدمة الطبية للناس إلى حين إصلاح ما يمكن إصلاحه.
■ هل يكفي القول إن الوضع الصحي والطبي في غزّة كارثي كما وصفه وفد منظمة الصحة العالمية؟ وهل من توصيف علمي للواقع القائم حاليا؟
□ القطاع الصحي الفلسطيني في غزة انتهى، وما هو قيد العمل فإنه يخدم فقط بين 10 إلى 15 في المئة من الجرحى، وهو غير قادر على خدمة أي مريض ممن يعانون أمراضا مزمنة، وهو عاجز عن معالجة الأمراض الوبائية التي سببها الاكتظاظ في مراكز الإيواء، وتدمير نظام الصرف الصحي.
أكد لـ«القدس العربي» أن الصهيونية وخدمها مرتبكون ومتوترون لفقدانهم السيطرة على السردية والعالم يتغير
■ من خلال معلوماتك هل هناك أماكن في العالم حلّ بقطاعها الصحي خلال الحروب ما حلّ بغزة؟
□ لا مطلقاً. أنه تدمير منهجي لكافة مكونات القطاع الصحي من بنيوية وإنسانية. لم يحدث في أي من حروب العالم أن يكون القطاع الصحي هدفاً أساسياً في الإستراتيجية العسكرية.
البدء باستهداف المشفى الأهلي المعمداني كان خطة عسكرية اعتبرت القطاع الصحي جزءاً أساسياً من الحرب. فهذه الحرب بدأت كمشروع إبادة، وكان ضرورياً تحويل قطاع غزّة إلى مكان غير قابل للحياة، وإن تدمير القطاع الصحي هو جزء من المشروع، وباتت المجاعة الآن جزءاً آخر منه. إن استهداف قوافل الإغاثة، واستهداف الناس الساعية للحصول على الغذاء، وكذلك طواقم مطبخ الغذاء العالمي القريبة سياسياً من الحزب الديمقراطي الأمريكي، يعني الإصرار على حرب التجويع.
■ كيف تقرأ ردود الأفعال العربية والعالمية حيال تدمير المشافي وخاصة مستشفى الشفاء؟
□ تتراوح سعة (مستشفى) الشفاء بين 600 و700 سرير. وتم بناؤه قبل النكبة، وكانت أبنيته في توسع دائم. ويُشكّل 30 في المئة من القدرة الاستيعابية للنظام الصحي في القطاع. حدثت مجزرة الشفاء بالتدريج ودون التفات إعلامي لحجمها. دخل الجنود الإسرائيليون إلى المشفى وأعدموا الطواقم الطبية، ومنهم الزميل والصديق الدكتور احمد مقادمي رحمه الله. والكارثة الكبرى على المستوى الإنساني البحت، هي أن ما حدث في مشافي قطاع غزة من تدمير واعتداءات، سيصبح درساً في الأكاديميات العسكرية تحت عنوان «تدمير القطاع الصحي كجزء من أي حرب». وبما أن العالم صمت على ما حدث في مشافي غزة، فسيكون تدمير القطاع الصحي من الأولويات الإستراتيجية لأي حرب مقبلة.
■ يعني ذلك أنها ستُدرّس كإيجابية في الحروب لصالح المعتدي؟
□ في رأيي ستكون جزءا من الإستراتيجية العسكرية التي تدرّس للقادة العسكريين. فهدف تحويل المدينة إلى خراب يبدأ بتفكيك النظام الصحي.
■ وهو اكتشاف عسكري يُسجل للصهيونية؟
□ نعم.
■ نقرأ من حين لآخر عن وجود أطباء أجانب في غزة. ماذا تقول عن هؤلاء الزملاء؟ وهل من تواصل معهم؟
□ إن 75 في المئة من الأطباء الأجانب يدخلون غزّة للمرة الأولى، ومنهم من يزور أماكن حروب لأول مرّة أيضا. وأحدثت هذه الحرب تغيراً بسبب مركزية تدمير القطاع الصحي. فما حدث في غزّة كان صعباً أن يتابعه أي إنسان يعمل في القطاع الصحي من دون أن يستفز مشاعره. مجموعة من هؤلاء الأطباء عملوا في اليمن والعراق، والأغلبية العظمى يعملون للمرة الأولى في مناطق حروب.
■ ماذا لمست لدى هؤلاء الأطباء بعد عملهم في غزّة؟
□ لقد تغيروا. هناك صديق لي قال بأنه بات مستحيلاً عليه النظر إلى الناس وكوكب الأرض بالطريقة نفسها، بعد معاينة هذا الإجرام في غزّة، والتواطؤ مع القاتل.
■ ما هو الجديد عن صندوق غسان أبو ستة للأطفال؟
□ ننتظر مرحلة إخراج الأطفال من قطاع غزّة إلى مصر بعد إرسال قوائم بأسمائهم، لنأتي بهم إلى لبنان. الحمد لله تمكنّا من تغطية تكاليف الدفعة الأولى من الأطفال وتأشيرات الدخول وحاجات الإقامة في لبنان.
■ كم يبلغ عدد المجموعة الأولى؟
□ نظرا لكوننا نقوم بالمهمة للمرة الأولى، فإنني فضّلت أن يكون العدد ما بين 15 و17 طفلاً. والسبب هو اختبار منظومتنا عمليا كجمعية. وتالياً يتوسع الإطار بين من ينهون العلاج، ومن يأتون مكانهم.
■ وهل تم تأمين كافة المتطلبات اللوجستية للأطفال ولذويهم؟
□ نعم تيسّرت. اخترنا لبنان مركزاً للعلاج لأن الخبرات الطبية المتواجدة فيه مميزة في المنطقة رغم كافة الظروف، وخاصة علاج إصابات الحروب المعقّدة والمركبّة.
■ وهل ستكون في بيروت لاستقبال الدفعة الأولى من الأطفال؟
□ إن شاء الله.
■ ماذا تقول عن فريق صندوق غسّان أبو ستة للأطفال؟
□ لا يمكن أن تتخيلي عدد الراغبين بالتطوع، بدءاً من أساتذة المدارس الراغبين بالمساعدة في تعليم الأطفال خلال وجودهم في لبنان، إلى المتطوعين في الصحة النفسية لدعم الأطفال ومرافقيهم من الأهل، كذلك عدد الذين يعرضون منازلهم لاستضافة المرافقين، وعرض السيارات لنقل الجرحى من المطار. لقد احتضن المجتمع كله الفكرة، والزملاء الأطباء عرضوا خبراتهم ويساعدوننا في اختيار المرضى، كما أن مستشفى الجامعة الأمريكية وغيره من المستشفيات وضعوا غرف عملياتهم بتصرفنا، وبسعر الكلفة فقط.
■ عدد الأطفال الجرحى في غزّة كبيرة للغاية. كيف سيستمر الصندوق ويتغذى مالياً؟
□ بإذن الله نحن مستمرون حتى تمكننا من علاج أكبر عدد ممكن من الأطفال. وفي مرحلة ثانية سيكون للمشروع جزء آخر، وهو محاولة إعادة بناء القطاع الصحي عن طريق منح لتخصصات طبية تمّ استهدافها. لقد استشهد في غزّة قرابة 300 طبيب، وكثر من بينهم لديهم اختصاصات لم تعد موجودة في غزّة مطلقاً، الجامعة الأمريكية في بيروت ستستقبل أصحاب تلك المنح.
■ وهل تلقى الصندوق تبرعات من خارج لبنان؟
□ نتلقى تبرعات من كل مكان في العالم.
■ هناك جرحى يغادرون غزّة للعلاج في الخارج هل لديك فكرة عن تسهيلات المغادرة وإلى أين يتوجهون؟
□ هم نسبة محدودة جداً مقارنة بالمحتاجين للعلاج. تقول وزارة الصحة أنها تحتاج لإخراج 11 ألف جريح من غزّة الآن وقبل الغد. وعدد الذين خرجوا لا يتعدى ألفي جريح.
■ ماذا عن تواصلك مع الأطباء الصامدين في غزة؟ هل من تفاصيل تصلك من خلالهم؟
□ نعم، وخاصة أطباء الشمال حيث لا يزال مشفى الأهلي ومشفى المعمداني والعودة قادرين على استقبال الجرحى. وأعترف بأني استمد القوة من الزملاء الصامدين هناك. تلقيت الكثير من رسائلهم بعد منعي من دخول ألمانيا، وكذلك بعد انتخابي رئيساً فخرياً لجامعة غلاسكو، واعتبروا انتخابي نصراً لهم.
■ ماذا يعني لك شخصياً هذا الانتخاب؟
□ غلاسكو هي الجامعة التي تخرّجت منها طبيباً، والطلاب هم من ينتخبون الرئيس الفخري. إنها الجامعة التي كان رئيسها الفخري آرثر بلفور في مرحلة سابقة. وانتخب الطلاب في ثمانينيات القرن الماضي ويلي مانديلا المناضلة الجنوب أفريقية رئيسة فخرية.
■ وهل يمدّك هذا المنصب بأي صلاحيات؟
□ إنه صوت ومنبر للدفاع عن حقوق الطلاب والتعبير عن رفضهم للحرب على غزة. كسبت هذه الانتخابات بنسبة 80 في المئة، حيث تضاعف عدد الطلاب المشاركين في عملية الانتخاب، وهذا دليل على التغيير الجذري لدى الفئة العمرية الشابة. والتغيير يسود أوروبا وأمريكا الشمالية.