يتفاخر الرجال بعلاقاتهم النسائية؛ فذلك مستقر الثقة في أنفسهم، وذاك الصنف من الرجال يطلق عليه اسم «الدنجوان» نسبة إلى الشخصية الخيالية «دون خوان» Don Juan التي ظهرت في شكل أسطورة تصوِّر حياة رجل ينذر نفسه لحياة المجون وتعدد العلاقات النسائية.
ولطرافة المغامرات التي يمر بها «دون خوان» الذي حرِّف اسمه في اللغة العربية إلى «دون جوان» تلاقفت الشخصية، الأعمال الأدبية من شعر وأوبرا ومسرحيات. وأيضا، يوجد الشاعر الإنكليزي جون دون John Donne (1572- 1631( الذي ولد في القرن السادس عشر وامتد عمره ليشمل القرن السابع عشر.
ويذكر أن جون دون ولد في عائلة متديِّنة، لكنه هجر وظيفته الكنسية ليحترف الشعر. وقد اشتهر بالمجون وتعدد علاقاته النسائية. لكن في ما يبدو أنه حتى حياة المجون والعبث وتعدد العلاقات النسائية كان لها ما يقابلها عربيا؛ فمن أشهر الشعراء العرب الذين اشتهروا بالفسق والمجون الشاعر عمر بن أبي ربيعة.
عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم (664م/ 23 هـ – 711م/93هـ) شاعر قرشي من بطون بني مخزوم، ويلتقي نسبه مع النبي «ص». ويعد فخر قريش لأنها كانت تتفوَّق في السياسة والدين والتاريخ، لكن لم يكن فيها شاعر تتفاخر به. وعلى هذا كان ميلاد عمر بن أبي ربيعة وتفوُّقه في الشعر، سبيلاً لتفوُّق قبيلة قريش في جميع المناحي؛ حيث أنه من شعراء الطبقات في العصر الأموي، ترقى طبقته لجرير والفرزدق والأخطل، وهم من أشعر شعراء ذاك الزمان. بيد أن الفرق بينه وبينهم أنه لم يحترف المدح والهجاء، لكنه احترف شعر الغزل وطوَّره وجدد فيه؛ فقد أدخل عليها القص والحوار، وقام بترقيق الأوزان، ما جعل الأشعار قابلة للغناء. ولمَّا سُئِل عن سبب عدم احترافه المدح كأقرانه، كان يجيبهم أنه لا حاجة به إلى ذلك؛ فهو شديد الثراء.
نشأ عمر بن أبي ربيعة في كنف أسرة ثرية ذات أصل عريق، متمتعا بالبهاء والوسامة وحسن الطلعة، ما جعل النساء تتهافت عليه. وشبابه الذي قضاه مع أمُّه يساعدها على إدارة أملاك أبيه الواسعة، أتاح له الاختلاط بالنساء والجواري دون تحرُّج. فمنحه ذلك خبرة التعامل مع النساء وكيفية إغوائهن. ومثل أي مترف، انصرف إلى حياة اللهو والمجون وتعدد العلاقات النسائية. وفي مجالس الطرب والغناء، كان الفارس الذي يقول قصائد الغزل الصريح والفاحش، دون أي تحرُّج في نساء مكَّة. وكان الشاعر الذي تطلبه المجالس في المدينة والطائف وغيرها من مدن الشعر واللهو. ويمكن القول إن عمر بن أبي ربيعة هو شاعر دحر التوقُّعات، وبدأ ذلك منذ لحظة ميلاده. فمن الطريف أنه ولد عام 23هـ في العام نفسه الذي توفي فيه الفاروق عمر بن الخطَّاب، فسماه والده عمر، لعل ولده يماثل الفاروق في رجاحة العقل والعفَّة والتديُّن.
عمر بن أبي ربيعة فتى قريش المدلل، والشاعر الذي نذر نفسه للحب والغزل، يعد حلقة الوصل بين القديم والحديث؛ فهو امتداد لأمرئ القيس قديما، وتمهيدا لنزار قبَّاني في العصر الحديث.
لكن حياة اللهو والمجون التي كرَّس لها نفسه جعل الناس ينعتونه «زهق الحق، وظهر الباطل» ويشيرون بذلك إلى تقوى عمر بن الخطَّاب، وحياة وشعر بن أبي ربيعة اللذين وسمهما التحرر والفسق.
وأشعار عمر بن أبي ربيعة هي مذكِّراته التي يدوِّن فيها فسقه وخلاعته ومغامراته مع النساء. وقد بلغ به الفسق أنه كان ينتظر كل عام موسم الحج حتى يتحرَّش بالجميلات من النساء. وفي كل عام، كان يعتمر ويلبس أفخر الثياب ويمتطي أفضل أنواع الفرس وقد خضَّبها بالحناء وألبسها أفخر القطوع الموشاة. وهناك، يلتقي مع الحاجَّات من الشام والعراق والمدينة، فيتحرش بهن بإلقاء الأشعار، وتغزُّله فيهن. ومن يتجاوبن معه يتعرَّف عليهن، ويرافقهن طوال فترة الحج، ويعتني بهن، ويروي لهن بعضاً من مواقفه وطرائفه مع النساء. وبعد كل موسم يدوِّن ذلك في أشعاره وقد بلغ الانتشاء منه مبلغه، لدرجة أنه صار يتمنى لو أن موسم الحج يستمر طوال أيام السنة. وكثيرا ما كان يوقعه التحرَّش بالنساء في مشكلات جمَّة، مثل ما حدث عندما تحرِّش بزوجة أبي الأسود الدؤلي، وهو أوَّل من وضع علم النحو وشكّل القرآن، فقد حدث أنه بينما كانت تطوف امرأته، بصرها عمر، فأعجبته، فأخذ يتحرَّش بها، لكنها كانت تنهيه وتصرخ: «إليك عني، فإني في حرم الله وفي موضع عظيم الحرمة!» لكن لم يزجره ذلك. ولما شغلها عن الطواف بإلحاحه عليها، ذهبت لزوجها وأخبرته، فأتاه أبو الأسود وعاتبه، لكن أنكر عمر. وفي اليوم التالي، أخذ يتحرش بها مرة أخرى، فشكت مرة أخرى لزوجها، الذي في ذاك المرة أخذ يعاتبه وهو في المسجد جالس مع جماعة من الناس. فما كان من عمر إلا أن تعهَّد ألا يكلِّمها مرَّة أخرى، لكنه تعرَّض لها أيضا في اليوم التالي. وأثار ذلك حنق أبي الأسود، الذي توعَّد بعمر إذا تحرَّش بامرأته مرَّة أخرى، ولقطع السبيل عليه، رافق زوجته في اليوم التالي مدججا بسيفه. وبلمحهما، أعرض عمر عنهما وفر مولياً الأدبار.
ومجون عمر جعل النساء تحيك له المكائد؛ مثل النساء المتخفِّيات اللائي أوعزن لأحد أصدقاء عمر بأن يأتي به على هيئة رجل عجوز ليلقي عليهن الشعر تحت ذريعة وجود نساء ترغبن في سماع الشعر. وبعد قضاء يومين معهن، أفصح عمر عن شخصه وعن خدعته لهن، لكنهن صارحنه بأنهن ابتكرن الحيلة حتى يبصرنه رثاً أشعث الثياب وهو المتفاخر بجماله وحسن ملبسه. وهناك أخرى أغوته وجعلته يلحقها للعراق حتى يتزوَّجها. ولما وصل، أخبرته أنها متزوجة ولديها أطفال، ومكيدتها الغرض منها إعطاؤه درسا لن ينساه حينما تفضح أمره بين الجميع. وأما التناقض الرهيب فهو حياة عمر بن أبي ربيعة بعد الزواج؛ فقد قضى نحو أربعين عاما من عمره لاهيا ماجنا، وبعد الزواج اهتدى تماما، وما عاد لتلك الأفعال الصبيانية بتاتا. بل ذكر أنه هجر الشعر قبيل وفاته.
عمر بن أبي ربيعة فتى قريش المدلل، والشاعر الذي نذر نفسه للحب والغزل، يعد حلقة الوصل بين القديم والحديث؛ فهو امتداد لأمرئ القيس قديما، وتمهيدا لنزار قبَّاني في العصر الحديث. كان معجبا بنفسه لدرجة أنه وصف ذاته في شعره على لسان امرأه بقوله «وهل يخفى القمر؟» قاصدا نفسه بذلك. لكنه عندما عشق أخلص، ولربما كان السبب في ذلك ضياع حبيبته «الثريا» منه مرَّة، فلم يرغب في تكرار مأساته مرة أخرى.
كاتبة مصرية
مقال رائع ولكنه بدون روح ادبية ، هو شاعر غزلي بلا شك كما ذكرتِ لذلك يجب علئ اقل تقدير ذكر بيت او بيتين غزليين إن صح التعبير
ممتاز الغوص في بطون الادب العربي القديم و رجالاته تحية تقدير واصلي سيدتي
إلقاء الضوء على حياة أعلام الأدب في تلك العصور هو شيء نفتقره لأن كل ما نعلمه عنهم هو أشعارهم فقط مع ذكر موقف هامشي، أما الإنسان الذي كتب تلك الابيات نفتقد كل المعلومات عنه. سعدت جدا بقراءة المقال
أودّ أن أشير إلى أنّ مقارنة دون خوان بعمر بن أبي ربيعة قد لا تستقيم تماما أو على الأقلّ ليس من كلّ الجوانب وذلك للأسباب التالية حسب رأيي المتواضع:
1) أنّ شخصيّة دون خوان قد تحوّلت إلى أسطورة ولعلّها في ذلك تشبه إلى حدّ ما شخصيّة كازانوفا. ولعلّ ما يجمع كليهما هو ظهورهما في مجتمع كاثوليكي (إسبانيا وإيطاليا) يحرّم الطلاق وتعدّد الزوجات وكان في تلك الفترة متشدّدا مع كل ما يتعلّق بالجنس. ويتضّح من ذلك أنّ عمر بن أبي ربيعة الذي نشأ في بيئة أقلّ تشدّدا (مقارنة بأوروبا الكاثوليكية في القرون الوسطى) لم يتحوّل إلى أسطورة.
2) أنّ عمر بن أبي ربيعة اعتمد على وسامته وشعره الغزلي في استمالة النساء أما دون خوان فلم يكن شاعرا وحتّى كازانوفا فلم يكن كاتبا كبيرا ولا شاعرا وإن كانت له أعمال أدبية.
وفي كلّ الأحوال أنت مشكورة لإثارة مثل هذه المواضيع التي تفتح مجالا للبحث المقارن بين الحضارتين الشرقية والغربية.