لا يعرف اللبنانيون قول «كلا» أو «لا» بواسطة الكلام. تسألُ رجلا عن حاجة، فإن كان الجواب هو النفي، يتخثّر عندها صمتٌ عميق على وجهه، ويرفع رأسه وحاجبيه إلى أعلى ببطء، وبهذه الإيماءة يجيبك اللبناني بالنفي. إنه لا يريد أن يطلق كلمة «لا» في وجهك لئلا يخدش شعورك، فيقولها لك بطريقة التمثيل الصامت -البانتومايم- وينجح اللبناني في ذلك أيّ نجاح. ذات مرّة سألت البائع، وكان عاملا بنغاليا، ورفع الشابّ رأسه وحاجبيه إلى أعلى، تماما مثلما يفعل أهل البلد، وبسحنته النبيذية، وبعينيه المسحوبتين إلى الجانبين، تبدّى لي في تلك اللحظة شبيها بصورة بوذا. إن هذا النبيّ لا يقول الكثير، أو أنه لا يقول شيئا أبدا، لكن ملامح وجهه تنقل لك حقيقة الوجود كاملة، وهو صامت…
حانة «جُوْ»
صحتُ على النادل، وطلبت منه مفتاح الدخول إلى النت، وظلّ يقرأ من ورقة أخرجها من جيبه 18 رقما: (333222777111888)، استغربت هذا الرمز البالغ الطول، وسألته عن اسمه. وأجابني، صائحا وفي نبرة صوته نوع من التحدّي الذي لا لزوم له:
– جوُوو!
في تلك اللحظة فكّرت أني في بيروت الحاضر، لا الماضي ولا المستقبل. كان الشابّ يعلن عن مسيحيته بطريقة متحدية. لكن المحلّ فارغ إلا من جو، ومعه فتاة تعمل بصمت. قلت في نفسي، إن في الأمر قصة. الموسيقى مثل شلال ينهمر، وكذلك الضوء من المصابيح. ألحان وأنوار ووجه حسن. ثم دعوت جو إلى كأس، وقلت له:
– حاكيني عنّك.
أخبرني أن عمره يبلغ الثلاثين، متزوّج منذ سنتين، وزوجته هي الفتاة الشقراء ذات الشعر القصير، والتي كانت تعمل معه بخفة وهدوء مثل نحلة. سألتهُ:
– أين تسكن؟
– يقع بيتي في الطابق الخامس، غرفة واحدة وحمام، وعلينا أنا وزوجتي وحماتي صعود أربع سلالم على الأقدام. الوضع المعاشي في بيروت صعب للغاية، بطلوع الروح لمّا حصلت على هذا الشُغِل، أنا وزوجتي.
عدتُ إلى القراءة، وهاتفني صديقي الرسّام كريم سعدون من السويد، وبقينا نثرثر بعض الوقت. مللتُ القراءة بعد أن مرّت ساعة، ساعة ونصف الساعة، ولم يدخل أحد إلى الحانة. الزبون الوحيد الذي شرّف المشرب الذي يديره آل جو هي امرأة ترتدي شالا، ولها عينان غاضبتان، وشربت قهوتها على عجل، وسط دخان سيجارتها.
سألت (جو) عن سبب خلوّ المكان من الزبائن، فأنا الشارب والطاعم الوحيد في الحانة منذ أكثر من ساعتين.
-لأنه اليوم الأول لنا في العمل. كان المحلّ متروكا منذ زمان تفجير المرفأ.
-أفهم من كلامك أني الزبون الأول في الحانة.
وهتف الاثنان، الزوج والزوجة في الوقت نفسه، وكأنما بلسان واحد:
نعم. أنت أول من شرّفنا بافتتاح المحلّ.
وكانت الكأس الأولى التي نادمني فيها (جو) هي أول قدح سلاف يُراق في الحانة، وكان يحمل اسمي.
في جونية
«كنتُ أشعرُ بالتعب هذا المساء/
لأن السائق تاه وظلّ يسأل عن اسم الفندق/
السائق طرابلسيّ، والفندق في جونية/
ساعتان ضاعت، لأنّا أخطأنا عند عدّ الجسور التي تهبط/
ثم تصعد إلى حيث الدنيا/
ووصلنا أخيراً/
لحمُ الرجال الذي لا يعرف التعب/
تعشّى بمرق الأخطبوط، ولحمِه/
في بار نجمة البحر».
لم يستيقظْ أحدٌ بعدُ، والحديقةُ خالية إلاّ من طائر يتقافز بين الأغصان ويغرّد. باب الفندق الذي سكنته في جونية يؤدي إلى البحر، والموج تراءى لي ثيراناً، وكانت الثيران تهاجمني دون هوادة. كان الطائر يغنّي ألوان السّحر في السماء، وأخذتُ أتجوّلُ في الساحة القريبة. جميع النزلاء نائمون، وعمال الفندق كذلك، والمدينة نائمة. بالأمس كان الصّبيّ العامل يتقاضى دولارين عن كلّ سيّارة تدخل الساحة. أيام السبت والأحد خمسة دولارات، هكذا تقول العلامة الشاخصة في المدخل. كانوا يهبطون من سياراتهم وكلهم ثقة، حتى إن خطواتهم تختلف. وكلما كانت العجلة أغلى ثمناً كانت الكبرياء أعلى. لكن المال لا يأتينا بالرفعة دائما، بل بالضّعة في الغالب..
بدأت ألوان الفجر تتدفّق في السماء، ودوّى البحرُ بموجة عالية بلّل رذاذُها أحجارَ ممرّ الحديقة الخشبيّ النازل إلى الشاطئ. كنت أظنّ أن المكان وادع في هذه الساعة، ولكن عِبرَ هذا الممرّ صعد السكّيرُ إليّ، وكان يحمل قنّينة بيرة في جيب بنطاله الخلفي. قال، وكان يبدو كمن يحدّث نفسه:
– الدنيا صديق. اللي ألله يحبّه يكون له صديق!
اتّخذ مكانه على المصطبة قربي، وصار كأنما هو صاحب الدار. مشهد السكارى في الصباح يُرسل رجفات في عمودي الفقري، وهؤلاء يدعوهم سعدي يوسف «ملتزمو خمرة الصّبح». من أين طلع لي هذا الرجل وأنا قلتُ أختلي من الناس في ساعة السّحر، أقرأ وأتأمل وأفكّر؟!
– فيْ شِيْ هوّ شي وما هوّ شي. هل تعرف جواب هذا اللّغز؟ سألني الرجل، وكان قد جاء ومعه الذبابة الأولى، وهذه جرّتْ معها سحابة من هذه الحشرات. تذكّرتُ قصة الشابّ الشاعر، ابن أحد السلاطين، وقد نفاه أبوه إلى الصحراء، وكان يشكو إلى الله، في الليل والنهار، وحدته وافتقاره إلى الرفاق. أخيرا، بعث الله له بعض الرفاق. لقد أرسل إليه ذبابا!
– لا أعرف الجواب. قلتُ، وكان الرجل يشرب البيرة، ويتباطأ في هذا الفِعل، كأنه لا يتعجّل اللذة كي لا تنتهي.
– هو الاسم، هل تستطيع مسكَ اسمي مثلما تمسك الآن يدي؟ قال الرجل، وصافحني، وبان في عينيه الضيّقتين توهّجٌ سرعان ما انطفأ بسبب السكر. يمكن أن يكون اسمك عاليا أو هابطا بين الناس، ويقرّر هذا الأمر عملك.
– لكنك تتعاطى الخمرة في الفجر، وهذا الفعل يقرّر اسمك.
– وَلَوْوو…! عملتُ في أمريكا مدة عشرين عاما. أعلى الإداريين منصبا وأجرا يبدؤون يومهم بشرب البيرة. أسألك سؤالا آخر: رغيف الخبز منين بابه؟
– لا أعرف.
– بابُه البسملة.
جواب حلو. جواب جميل. لكني سألت الرّجل، في سبيل الهزار والمناكدة: هل أنت متأكد من الجواب؟ وأجابني، وفي صوته نبرة غناء، وكان شاحبا، تحسبه جثة في تابوت مفتوح:
– وَلَوْوو…! كأس السمّ إذا قلت قبل شربه بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يصير عسلا صافيا.
«أن تلتقي بأحد أكلة لحوم البشر خيرٌ لك من أن تلتقي بمسيحيّ سكران». كما قال هيرمان ميلفيل قبل مئة عام. يا ملائكة السماء. يا ملائكة الأرض. يا ملائكة تسكن بين السماء والأرض، إن التحشيش لدى الرجل صار مضاعفا، بدل قراءة الشعر صرتُ أسمع ثرثرة هذا المجنون، وبدل الموضوع الفلسفي الذي كنت أنوي مناقشته، ها أنذا أفكّر في الذباب. كان الطائر يتقافز في الأثناء بين الأغصان القريبة، ويصغي معي إلى هذه الثرثرة الغريبة، ولم يكن السكّير (صديقي) يتحدّث ضدّ إرادته، أو نتيجة قسر خارجي. ثم جاءني بمعجزة أخرى تقوم بها البسملة، وأخرى للحوقلة، شفاء من مرض عجز عنه النطاسيون، ورزق وفير بعد إملاق، وكان يشرب البيرة من العلبة. ثم تلا عليّ سورة النجم، والكوثر. ومضى يخبرني عن معجزات دينية بنبرة رجل مخدّر جزئي، ويتحدث عن أحلام وأوهام وخرافات، وكان ينكأ بهذا الكلام جراحه بشكل غريب. ومن شدّة إيمانه بما يقول كنت محتاجا إلى أحقاب من السنين لأقرّر هل كان الرجل سكران بالخمرة أم بالدين. كانت السماء تتلوّن بأزرق الصّباح الأول، النجمة وحدها تُذرذر فضتها، والذهب من جهة الشّرق وافر. الطائر اختفى. أيّانَ يرتحلُ، لأنه تخلّص من هذا السكّير، فانّ وجهته الجنة.
كاتب عراقي