تكاد تكون الدورة الثامنة لمهرجان العودة السينمائي الفلسطيني هي الأكثر تميزاً ونجاحاً، رغم ظروف الحصار والتقييد والنشاط العدواني اليومي لآليات القتل والتدمير الإسرائيلية، فعلى مدى شهور طويلة استمر الإعداد للمهرجان السينمائي المهم الذي بات يحظى بتأييد إقليمي ودولي وعالمي منقطع النظر، لم يشهده منذ تأسيسه، ذلك أن الأحداث الجارية التي كان متوقعاً أن تعوق عملية التواصل وتتسبب في فشل المهرجان وتوقفه، أدت هي ذاتها إلى المزيد من الدعم والتحفيز داخلياً وخارجياً، حيث توالت الدول العربية والافريقية والأوروبية في إرسال أفلامها للمُشاركة بكل ود وترحيب.
ومع بدء الدورة وإقامة حفل الافتتاح ظهرت تجليات التحدي والإصرار، إذ تم الافتتاح على نطاق دولي واسع فقد شارك فيه ثلاث دول هي، مصر والمغرب واستراليا، بخلاف بعض المُدن الفلسطينية كغزة وطولكرم ومواصي وخان يونس التي أعلنت الافتتاح في التوقيت نفسه 1 أغسطس/آب 2024.
ومن المفارقات الغريبة الدالة على اكتساب المهرجان لشهرة واسعة وتأييد جماهيري شبه مُطلق أن الدورة الثامنة الاستثنائية التي أقيمت وسط أجواء يحفها الخطر من كل النواحي كانت هي المُتمتعة بالنصيب الأوفر من الأفلام التي وصل عددها إلى 93 فيلماً من 31 دولة عربية وأوروبية، كان من بينها مصر والعراق وسوريا والأردن والمغرب وتونس وأستراليا وكندا والبرازيل وتركيا، وهو ما يُعد استفتاءً إيجابياً على المهرجان وعلى القضية الفلسطينية أيضاً، لاتصال جميع الأفلام المشاركة بالصراع على الأرض والحرية والاستقلال والحقوق المشروعة كافة للشعب الفلسطيني المناضل. وقد عُرض في حفل الافتتاح فيلمان أحدهما روائي هو «السُلطانة» للمخرج الأردني هيثم عبد الله، والثاني تسجيلي بعنوان «التحدي» للمخرج سعود مهنا، وبموجب الاتفاق على آلية التحكيم ومنح الجوائز وشهادات التقدير تشكلت اللجنة المنوط بها تقييم الأفلام وإعطاء الدرجات المُناسبة لكل فيلم من السينمائية الأردنية عبير عيسى، رئيسة للجنة التحكيم وعضوية كل من ليلى برحومة من تونس ونبيلة رزيق من الجزائر، وهي اللجنة النسائية الأولى في تاريخ المهرجان منذ 7 سنوات والتي خلت من مشاركة النُقاد الرجال.
وبإعلان النتيجة في ختام الدورة حصل فيلم «يوم دراسي» للمخرج أحمد الدنف على جائزة مفتاح العودة المُقدمة باسم المناضل الراحل فيصل الحسيني، كونه الفيلم الذي تحدث عن القدس بشكل مُميز ودقيق وكذلك حصل فيلم «رابطة الدم» للمخرجة بيسان زهير خليل على جائزة نيلسون مانديلا، التي تم تخصيصها هذا العام تناغماً مع إهداء الدورة الثامنة لدولة جنوب افريقيا التي بادرت بإدانة إسرائيل وقامت برفع دعوى قضائية طالبت فيها بمحاكمة نتنياهو باعتباره مجرم حرب. كما حصل فيلم «معركة إنقاذ» للمخرجة الفلسطينية فرح محمد الناصر على جائزة أفضل فيلم وثائقي، ونال فيلم «قيد» للمخرجتين الفلسطينيتين رزان خضر ورنا صلاحات جائزة أفضل فيلم عن المرأة، بينما كانت جائزة أفضل ممثل من نصيب الفنان التونسي ناصر طنبورة، الذي جسد شخصية البطل في فيلم «ذات» للمخرج قُصي العامرة، وبدورها حصلت الفنانة ملاك أبو غربية على جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «قيد» في حين حصلت الطفلة إيمان اللحام على جائزة أحسن مُمثلة في الأداء التمثيلي التلقائي للأطفال عن مشاركتها في فيلم «فتحت الوردة».
وبينما ذهبت جوائز السيناريو والتصوير والإخراج جميعها للأفلام الفلسطينية تمكنت السينما العراقية من انتزاع جائزة أحسن فيلم روائي «بيتنا» للمخرج فرشاد نوري بور لتكون هي الاستثناء الوحيد بعد تونس في حصول الدول الأخرى المشاركة على أي من الجوائز. ومثلما أحدث الافتتاح دوياً هائلاً خلف حفل الختام أيضاً صدىً قوياً على المستوى الدولي والإقليمي والعالمي، وظهر ذلك بوضوح في التناول الإعلامي المؤيد والداعم بالفضائيات العربية ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يؤكد بامتياز نجاح المهرجان وتوفيق القائمين عليه في مواجهة التحديات وتذليل الصعوبات والعقبات كل في موقعه، سعود مهنا كمؤسس ورئيس ويوسف خطاب كمدير وأسامة مبارك الخالدي كمخرج وكاتب وآمال الأغا وسونيا عباس من اتحاد المرأة الفلسطينية في القاهرة كمنسقين وداعمين للنشاط السينمائي والفعاليات كافة. لقد توافرت كل أسباب النجاح والذيوع والانتشار لمهرجان العودة الذي يرفع منذ تأسيسه شعار انتظار العودة عودة بيقين بالغ وإيمان مُطلق لا يقبل الشكل بأن عدالة السماء تقضي بعودة اللاجئين إلى بلادهم وديارهم، وأن استقرار الدولة الفلسطينية وإعلان القدس عاصمة أبدية لها أمر آت لا محالة، فالسينما والمسرح والروافد الثقافية ليست سوى أدوات يتم من خلالها التذكير بهذه الحقيقية والتأكيد على بديهية عودة الأرض وجلاء الاحتلال إن آجلاً أو عاجلاً، فلا يضيع حق وراؤه مُطالب كما يقول المثل الشعبي وها هي المُعطيات تُدلل وتُبرهن على اقتراب الموعد وإن غداً لناظره قريب.
كاتب مصري