تعتبر العقيدة السياسية للصهيونية الدينية أن «الدولة اليهودية» تواجه تهديدين وجوديين، الأول هو إقامة دولة فلسطينية؛ فهذه العقيدة لا تؤمن إلا بوجود دولة واحدة فقط «بين النهر والبحر». التهديد الثاني هو «القنبلة النووية الإيرانية»؛ فامتلاك إيران للسلاح النووي يجرد إسرائيل من «التفوق الساحق» على جيرانها. وقد استعانت الصهيونية الدينية والسياسية على مواجهة التهديد الأول بالاستيطان المستمر. وكان هذا محور خلافات بين إسرائيل وأمريكا منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الآن. لكن إسرائيل كانت الطرف الرابح في هذه الخلافات، حيث استمر الاستيطان بوصفه آلية أساسية في عملية إقامة الدولة وتعزيز قوتها. وفي العقود الأخيرة، بعد أن تحولت «إيران الشاه» إلى «إيران الخميني»، ثم سعت إلى تطوير برنامجها النووي، فإن إسرائيل تعتبر أن قوة إيران تمثل «تهديدا وجوديا» لها، وهي تريد لهذا التهديد أن ينحسر من حيز الممكن، إلى حيز الصعب ثم اجتثاثه، تماما كما تفعل مع «حل الدولتين».
تضارب الأولويات
وبسبب التغيرات العاصفة والسريعة التي يمر بها العالم، مع انتقال محور القوة إلى الشرق، وتضعضع مكانة الولايات المتحدة في العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، فإن إسرائيل لم يعد بمقدورها أن تحقق أحلامها بركوب الريح الأمريكية، ببساطة لأن هذه الريح تنحسر. وفي المقابل ترى الولايات المتحدة أن الصين هي التهديد الوجودي للقوة الأمريكية، وأنها في حاجة إلى فرض حصار على روسيا لشل قوتها الجيوسياسية. ومن ثم فإن أهمية الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية بدأت تنحسر، ومع انحسارها، فإننا نشهد قدرا كبيرا من الاضطراب والتخبط في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. أحد أهم محركات هذا الاضطراب هو اختلاف أولويات كل من الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، وهو اختلاف يتجلى في موقف كل منهما تجاه «الدولة الفلسطينية» و «القنبلة الإيرانية». ومع اتجاه إسرائيل سياسيا إلى أقصى اليمين الصهيوني الديني المتطرف، وظهور أعراض الوهن السياسي على الولايات المتحدة داخليا وخارجيا، فإن افتراق الرؤية والمصالح، قد يفضي إلى صدام مقبل بين تل أبيب وواشنطن، أو على الأقل إلى إعادة صياغة العلاقة بين الطرفين، في مرحلة الانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، يطبع صورته أيضا على النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.
تمر العلاقات الإسرائيلية – الأمريكية باختبار صعب، هو أسوأ بكثير من اختبارات سابقة، ورغم التحالف الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن، فإن شق الخلاف بينهما يتسع يوما بعد يوم
في الوقت الحاضر تمر العلاقات الإسرائيلية – الأمريكية باختبار صعب، هو أسوأ بكثير من اختبارات سابقة، منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن، ورغم التحالف الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن، فإن شق الخلاف بينهما يتسع يوما بعد يوم، منذ مجيء الإدارة الديمقراطية، والجفوة الشخصية بين نتنياهو وبايدن. وقد اعتقدت الإدارة الأمريكية أن تشجيع «اتفاقيات إبراهام» على أساس مبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام»، يمثل مخرجا من ورطة تفاقم الخلاف بشأن إحياء الاتفاق النووي مع إيران. بمعنى أن يكون تشجيع واشنطن للتطبيع، خصوصا بين تل أبيب والرياض، ثمنا لسكوت إسرائيل عن عقد صفقة أمريكية مع طهران. لكن شراء التطبيع مع السعودية ليس صفقة مجانية، كما ترى القيادة في الرياض، وأن الثمن الأول للصفقة هو إسقاط مبدأ نتنياهو «السلام مقابل السلام» وتثبيت مبدأ المبادرة العربية «الأرض مقابل السلام». وهكذا تشابكت أطراف القضيتين: الدولة والقنبلة، لتصنعا معا خلافا عميقا بين تل أبيب واشنطن، هو الأسوأ منذ خلاف شامير – بوش في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
نتنياهو واجتثاث حل الدولتين
في اجتماع مع أعضاء لجنتي الدفاع والشؤون الخارجية في الكنيست الإسرائيلي، في أواخر الشهر الماضي، قال رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه «يجب إنهاء طموح الفلسطينيين في إقامة دولة لهم»، ورغم خطورة التسريبات عما دار في الاجتماع، فإن أحدا لم ينف تصريح نتنياهو، بمن في ذلك نتنياهو نفسه، وهو ما يثير تساؤلات كبيرة عن استراتيجية إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وعن مستقبل عملية السلام. كما أن تصريح نتنياهو يفسر أيضا التوسع الخطير في عمليات الاستيطان، ومحاولات التضييق على الفلسطينيين، سواء داخل ما يسمى «الخط الأخضر»، أو في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وطبقا لما تسرب عن الاجتماع فقد كان الموضوع الرئيسي للنقاش في الكنيست، هو بحث «الاستعداد للتعامل مع الفلسطينيين في مرحلة ما بعد محمود عباس». ومن الواضح طبقا لسلوك الحكومة الحالية، التي تشكلت على أساس نتائج انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، أن المجتمع الإسرائيلي قد انحرف يمينا إلى الدرجة التي مكنت أقطاب الصهيونية الدينية، أمثال سموتريتش وبن غفير، من اختطاف السياسة الإسرائيلية ودفعها في اتجاه أقصى درجات التوسع الاستيطاني المقرون بالإرهاب المسلح، من جانب الحكومة والمستوطنين على السواء. وقد انعكس هذا التحول على موقف نتنياهو المعلن من مسألة «حل الدولتين»، وشجعه على كشف ما نعتبره موقفه الحقيقي من هذه المسألة. وكان نتنياهو قد أعلن عام 2009، مع بداية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي باراك أوباما، استعداده للقبول بحل الدولتين، في خطاب شهير في جامعة «بار إيلان» في تل أبيب، لكنه ربط هذا القبول بعدد من الشروط، من أهمها: الحصول على ضمانات دولية بأن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن يقبل الفلسطينيون بأن إسرائيل هي «دولة يهودية» تمثل وطنا لكل يهود العالم. ومع ذلك فإن نتنياهو، منذ ذلك التاريخ حتى الآن، راح يعمل بكل قوته ضد مشروع إقامة دولة فلسطينية، ليس بإطلاق الشعارات والدعوة إلى عقد المؤتمرات، ولكن بإقامة حقائق جديدة على الأرض، مادية مثل الاستيطان في القدس الشرقية، وقانونية مثل قانون «يهودية الدولة»، تنقل «حل الدولتين» من حيز «البديل الصعب» إلى حيز «البديل المستحيل».
الخلاف بشأن إيران
الخلاف الإسرائيلي مع الولايات المتحدة بشأن سياسة الاستيطان وممارسة العنف ضد الفلسطينيين، هو خلاف قديم، لكنه لم يعد الخلاف الاستراتيجي الوحيد بينهما؛ لأن خلافا آخر أصبح يهدد استقرار العلاقات بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة الرئيس بايدن، ألا وهو الخلاف بشأن الموقف من البرنامج النووي الإيراني. وفي الحالتين، الاستيطان وإيران، فإن حكومة «نتنياهو – سموتريتش- بن غفير»، تعتقد أنها تدافع عن وجودها أمام تهديد محقق، ومن ثم فإنها تتبنى أقصى الخيارات عنفا. بينما نجد في المقابل أن إدارة بايدن ترى أن سياسة الاستيطان تنسف «حل الدولتين»، وهو الحل الذي تعلن التمسك به رسميا لتسوية القضية الفلسطينية. كما تعتقد أن سياسة إسرائيل في «تقديم الحرب على الدبلوماسية» في التعامل مع إيران، تتعارض مع سياسة واشنطن الحالية في «تقديم الدبلوماسية على الحرب»، وهي السياسة التي تتضمن التزام الولايات المتحدة بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وضمان التفوق الإسرائيلي العسكري النوعي على جيرانها.
نتنياهو والبقاء في السلطة
ومع أن سياسة نتنياهو تجاه «الدولة الفلسطينية» و»القنبلة الإيرانية» تلتقي مع سياسة الصهيونية الدينية المتطرفة، إلا أن ذلك لا يعني أن سياسة نتنياهو هي مفعول لضغوط يتعرض لها من شركائه في التحالف الحكومي الراهن. ونعتقد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي له مصلحة شخصية وسياسية في بقاء الائتلاف الوزاري الحالي، لأطول فترة ممكنة، لثلاثة أسباب، الأول هو أن ذلك من شأنه أن يساعده على الإفلات من أي عقوبة ثقيلة في قضايا الرشوة والفساد التي يحاكم بسببها حاليا. والسبب الثاني، هو أنه يسعى فعلا إلى تغيير النظام القضائي في إسرائيل، بما يحرر السلطة التنفيذية من الرقابة القضائية، ويمنح الأغلبية الحكومية فرصة مفتوحة للتلاعب بالقوانين والأحكام القضائية في اتجاه تحويل «الديمقراطية اليهودية» إلى «بنية قانونية للتمييز ضد غير اليهود» و تقنين سياسة «الأبارتهايد». أما السبب الثالث، فهو دفع محركات الاستيطان في «أرض إسرائيل» بمفهومها التوراتي إلى أبعد نقطة ممكنة. وفي هذا السياق، يمكننا إعادة صياغة موقف نتنياهو من «الدولة الفلسطينية» و»القنبلة الإيرانية» في معادلات على النحو التالي: «الدولة الفلسطينية تمثل عقبة في طريق الاستيطان اليهودي» في أرض «إسرائيل التوراتية». وهي معادلة تصطدم بقرار مجلس الأمن رقم 2334 بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 2016، الذي يعتبر الاستيطان «عقبة في طريق تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين» ومن ثم فإن معادلة نتنياهو تصل إلى مفترق طرق يفصل بين سياستين، إحداهما تعتبر أن «المستوطنات عقبة في طريق إقامة الدولة الفلسطينية»، وأخرى تعتبر أن «الدولة الفلسطينية عقبة في طريق إقامة دولة يهودية على أرض إسرائيل التوراتية». مفترق الطرق الثاني يتعلق بالموقف من إيران، ويفصل بين سياستين، أمريكية تتبنى مبدأ «أولوية الدبلوماسية على الحرب»، وأخرى إسرائيلية، تتبنى مبدأ «أولوية الحرب على الدبلوماسية». هذا الافتراق في المواقف يمثل وصفة سياسية لصدام مقبل بين إسرائيل والولايات المتحدة.
كاتب مصري