ظلت المعايير المتعلقة بالاقتصاد العراقي تخضع إلى تقييمات مضلِّلة، من خلال اقتطاعها عن سياقها، ومحاولة تسويقها على أنها «إنجازات» لرئيس الحكومة شخصيا، أو لحكومته بالكامل في أحيان قليلة، ومن أبرز هذه الأوهام التعكز على أرقام «معدلات النمو» المتحققة (معدل النمو يتم قياسه من خلال معادلة رياضية يطرح فيها الناتج المحلي الإجمالي الجديد، من الناتج المحلي الإجمالي القديم، مقسوما على الناتج المحلي الإجمالي القديم نفسه)، من خلال إيراده مجردا من أي سياق، ودون الإشارة إلى الأسباب الحقيقية لهذا النمو المفترض!
في نيسان/ابريل عام 2022 قال رئيس الحكومة السابق إنه خلال عامين من عمل حكومته استطاع تحقيق أعلى معدل نمو اقتصادي على مستوى الدول العربية، وأن صندوق النقد الدولي توقع أن يصل معدل النمو الاقتصادي في العراق إلى 9.5٪ خلال عامي 2022 و2023، وإن هذا النمو جاء «بناء على بدايات إصلاحية»! وأشار في خطاب آخر، بمناسبة نهاية ولايته، إلى أن الورقة البيضاء، وهي تمثل الخطة الاقتصادية التي تبنتها حكومته، قد نجحت في تحقيق أسرع نمو في الشرق الأوسط بمعدل بلغ 9.3٪ في العام 2022.
لكن رئيس الحكومة لم يتحدث عن الأسباب الحقيقية لهذا النمو «المفترض»، حيث أن المكتب الإعلامي لمجلس الوزراء ينشر في 24 أيار/ مايو الماضي خبرا عن مناقشة مجلس الوزراء تقريرا مفصلا عن الوضع الاقتصادي للعراق، وأهمها ما يتعلق «بمؤشرات الناتج المحلي، والمساهمة القطاعية في نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي»، دون الإشارة إلى تلك المؤشرات!
بالعودة إلى تقارير صندوق النقد الدولي التي استندت إليها الحكومة حول تقييم النمو الاقتصادي في العراق، سنجد كلاما مختلفا تماما؛ ففي بيانها الصادر في 7 كانون الأول/ ديسمبر، أي قبل أسبوع تقريبا، تحدث الصندوق الدولي عن أن ارتفاع أسعار النفط وحده هو الذي كان السبب في ارتفاع معدل النمو، بعد أن كان العراق قريبا جدا من الدخول في أزمة مالية عام 2020 بسبب انخفاض تلك الأسعار.
وأكد التقرير على استمرار «اختلالات التوازن الرئيسية»، وبالتالي ازدياد نسبة الاعتماد على النفط!
وبالعودة إلى تقرير «التقديرات الأولية للناتج المحلي الإجمالي للنصف الأول من سنة 2021» بالأسعار الثابتة، وهو آخر تقرير منشور على موقع وزارة التخطيط العراقية سنجد أن النفط الخام يشكل 57.08٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فيما لا يشكل قطاع الزراعة والصيد سوى 4.09٪، وقطاع الصناعات التحويلية سوى 1.11٪ من الناتج المحلي الإجمالي!
الحقيقة الوحيدة الواضحة اليوم هي أن الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي يعتمد بشكل كامل على النفط وايراداته المتحققة، وستكون معدلات النمو مجرد بارومتر يقيس أثر ذلك الريع، نزولا وارتفاعا، في الناتج المحلي الإجمالي، بعيدا عن أي وهم!
بمقارنة هذه النسب مع نسب الفصل الثاني الواردة في موقع وزارة التخطيط عام 2020 وبالأسعار الثابتة، وهو الفصل الذي شهد أزمة مالية حقيقية، سنجد أن النفط شكل 48.46٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فيما لم يشكل قطاع الزراعة والصيد 4.29٪، وقطاع الصناعات التحويلية 1.62٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
وكما هو واضح فقد انخفضت معدلات مدخلات هذين القطاعين في النصف الثاني من العام 2021، وانخفضت عن معدلاتها في النصف الثاني في العام 2020، وهو ما يعني أن معدلات النمو المتحققة لم تكن، في الواقع، نتيجةً لإصلاحات هيكلية في الاقتصاد العراقي، أو تغيير في قيمة السلع والخدمات التي أنتجت في العراق، بل كانت نتيجة مباشرة لارتفاع أسعار النفط حصرا، وبالتالي يمكن لهذه المعدلات أن تنخفض، اوتوماتيكيا، عند انخفاض أسعار النفط!
تضمن البرنامج الحكومي لعام 2006، والذي حصلت بموجبه على الثقة في مجلس النواب، النص الآتي: «لا يزال قطاع النفط يغطي (92.7٪) من الإيرادات العامة، وقد أدى هذا إلى نشوء سياسية مالية غير فعالة في الإصلاح الاقتصادي»، وحديثا عن «معالجة الاختلال الهيكلي في الاقتصاد العراقي»، ولمعالجة ذلك تحدث البرنامج عن وضع الحكومة «خطة طموحة تتضمن زيادة مساهمة القطاع الصناعي في الدخل القومي إلى 25٪ في العام 2030، وهذا يتطلب معدلات نمو صناعي سنوية تزيد عن 10٪»!
بداية من العام 2010 لم تعد البرامج الحكومية تتحدث عن أرقام ونسب، بل تكتفي بحديث انشائي عن الأهداف الاقتصادية؛ ففي العام 2014 تحدث البرنامج الحكومي عن « تعظيم الموارد المالية والاستخدام الأمثل لها، بضمنها تقويم السياسات النفطية والمالية والضريبية والنقدية ونظام الموازنة العامة ونظام تخصيص الموارد وإجراءاتها على أسس تنموية منصفة»! فيما يتحدث البرنامج الحكومي لعام 2018 عن «تطبيق سياسة الإصلاح الاقتصادي والانتقال من الدولة الريعية نحو اقتصاد السوق» وعن «خطط تنموية تستهدف القطاعات الحيوية»! وفي عام 2020 تقدمت الحكومة بورقة إصلاح مفترضة بعنوان «الورقة البيضاء» تتحدث عن تقليص عجز الموازنة إلى نسبة مستدامة بمقدار 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتقليص نسبة فاتورة الرواتب والأجور من الناتج المحلي الإجمالي من 25٪ إلى 12.5 ٪ خلال ثلاث سنوات، وإيقاف تمويل صندوق التقاعد من الموازنة العامة، وحصرها بصندوق التقاعد، وتخفيض الدعم الحكومي لتصل إلى نسبة 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وخفض الدعم المالي للشركات المملوكة للدولة بنسبة 30٪ سنويا. لكن الورقة لم تذكر الآليات التي يمكن، من خلالها، أن يتحول اقتصاد ريعي يعتمد بشكل شبه كامل على إيرادات نفطية لا يمكن التحكم في أسعارها، ومع هيمنة سياسة زبائنية تعتمد على التوظيف العشوائي لرشوة الجمهور، ومئات الآلاف من العاملين في الشركات المملوكة للدولة (القطاع العام)! أما البرنامج الحكومي لعام 2022 فلم يخل من الإنشاء أيضا، فقد تحدث عن العمل الجاد على تنويع الإيرادات غير النفطية من خلال توفير بيئة جاذبة للاستثمار، وتحسين الآليات التي تشجع تصدير المنتوجات المحلية، وتعزيز إسهام القطاعات الإنتاجية الزراعية، الصناعية، الخدمات، الصحة، والتعليم في الناتج المحلي الإجمالي، من خلال إقامة المدن الصناعية المتكاملة والاستثمار الزراعي الكبير بشركات متخصصة.
في العراق لا يمثل المنهاج أو البرنامج الحكومي سوى مجرد عنصر شكلي تتطلبه عملية تكليف رئيس مجلس وزراء متفق على تعيينه مسبقا، والتصويت في مجلس النواب على هذه البرامج، ليس سوى مشهد مسرحي يؤديه الجميع، والاختلاف بين هذه البرامج هو مجرد اختلاف في «اللغة» المستخدمة في الإنشاء السياسي، والحقيقة الوحيدة الواضحة اليوم هي أن الاقتصاد العراقي اقتصاد ريعي يعتمد بشكل كامل على النفط وايراداته المتحققة، وستكون معدلات النمو مجرد بارومتر يقيس أثر ذلك الريع ،نزولا وارتفاعا، في الناتج المحلي الإجمالي، بعيدا عن أي وهم!
كاتب عراقي
لازالت هناك رواتب لأشخاص وهميين , أو متوفيين , أو بدون وجه حق , أو لا حاجة للدولة بهم !
التضخم بدفع الرواتب أهلك الخزينة العراقية قبل سنتين , ولولا إرتفاع أسعار النفط لاستدان العراق !!
ولا حول ولا قوة الا بالله