الديمقراطية التركية والواقع

حجم الخط
2

الثورة التي تشهدها تركيا في هذه الأيام احتجاجا على دكتاتورية ‘حزب العدالة والتنمية’ وهو الحزب الحاكم اليوم، لم تكن الأولى من نوعها. ففي عام 2007 خرج الأتراك للشوارع بجماهير غاضبة تنادي بإسقاط النظام الذي جلبه هذا الحزب، ولكن هذه المظاهرات عجزت عن اكتساب شرعية واسعة لدى الجماهير، وبالتالي سيطر النظام عليها. فالثورة الحالــــية إذن ليست بسبب شجرتين أو متنزه غازي، بل لها جذور مسبقة، وفي هذه المرة استطاعت أن تختـــرق حواجــــز الاعلام المحلية وتجبرها على الاعتراف بها، بعكس ما حدث عام 2007، حيث كانـــت الثــــورة مقصورة على بعض المدن الرئيسية. انتشرت هذه الثــورة في الأرياف والقرى الفقيرة والمدن البعيدة عن مركز البلاد.
ومن خــــلال الثورة الحالية بدأت تخرج الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاعها، وتبين أن وراء الكواليس يكمن تحرك دكتاتوري يرفضه الشعب التركي.
فالانتخابات لا تشير إلى وجود ديمقراطية حقيقية، لأنها تشكل عنصرا واحدا من عناصر الديمقراطية، ويمكن الإشارة إلى أكثر من مثل مشابه في دول العالم، خصوصا الدول العربية التي تدعي الديمقراطية، والتي يفوز بها الرئيس بمعدل 99 في المئة من الأصوات. ومن هذا المنظار رأت مجلة ‘فورن بوليسي’ الأمريكية أن تشير إلى أن، ‘تركيا نموذج للديمقراطية الجوفاء’.
صحيح أن رجب طيب أردوغان قام بإصلاحات اقتصادية في البلاد، ولكنه في نفس الوقت حافظ على سيطرته الموجهة دينيا، آملا أن تؤدي هذه الإصلاحات إلى ارتفاع مستوى الحياة الاقتصادية للفرد، وبالتالي يتغاضون عن تصرفاته الديكتاتورية الأخرى التي تقف حجر عثرة في وجه المجتمع للسير قدما. فمنذ أن تسلم الحكم قام باعتقال ما يعتقد أنهم يعارضون سياسته، وقد شملت حملة الاعتقالات والتوقيف شريحة واسعة من أبناء الشعب التركي، ضمت صحافيين وأساتذة أكاديميين ورجال سياسة وناشطين في مجال الحقوق. كما قام بتقليص ميزانيات المسارح ومدارس الفنون الجميلة ومنع عرض برامج تلفزيونية ومسلسلات غير مقبولة على تفكيره، وتغيير قادة الجيش بقادة من الحركات الإسلامية، وحمل المتظاهرون شعارات تندد بسياسته تجاه الأطباء، وغير ذلك من المطالب الشعبية. باختصار فإن النظام القائم أراد أن يغير نمط الحياة للشعب التركي، فارتفعت شعارات تندد بذلك من أهمها ‘أعيدوا لنا تركيا’.
ولكن الاصلاحات الاقتصادية أدت في الواقع إلى خلق طبقة وسطى جديدة في تركيا لها مطالبها في التقدم، ويبدو أنه غاب عن رؤية اردوغان أن الشعوب لا تقف في مكانها ولا تعود إلى الوراء، فطبيعة الشعوب أن تتحرك بشكل مستمر وتتقدم وهذا معناه أن نظاما دينيا لا يمكن أن يقيم دولة ديمقراطية. فالدين هو علاقة الإنسان بربه أو في ما يؤمن به، والديمقراطية علاقة الإنسان بحياته اليومية، وبالتالي مستقبله ومستقبل عائلته. هذا هو السبب الذي أدى إلى انضمام المنظمات العمالية التركية التي تضم عشرات الآلاف من الأعضاء إلى المظاهرات. ولهذا السبب أيضا وجدت الدول الغربية أن الاستمرار في نجاحها وتقدمها يكمن في الفصل بين الدين والدولة، فالذي رفع شأن أردوغان في أعين الشعوب العربية كان المواقف التي اتخذها بالنسبة لإسرائيل والقضية الفلسطينية. وجاءت عملية إهانة السفير التركي من جانب نائب وزير الخارجية الإسرائيلية، ومقتل عدد من الرعايا الأتراك كانوا على ظهر الباخرة مرمرة، التي كانت جزءا من الأسطول البحري الذي جاء لكسر الحصار الإسرائيلي عن غزة، وكذلك المواجهة الكلامية بينه وبين الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيرس، وسحب السفير التركي من إسرائيل وغيرها، اعتبرها العرب تحركات ايجابية.
ولكن كل هذه التحركات لم تؤثر كثيرا على إسرائيل، فقد بقيت الأمور التي تريدها من تركيا مستمرة. فقد استمرت العلاقات العسكرية والتعاون الاقتصادي والتعاون الاستراتيجي، ولم تقم تركيا بمد يد العون لا العســــكري ولا الاقتصــــــادي للفلسطينيين، واكتفت بإطلاق التصريحات الرنانة إبان حرب إسرائيل الغاشمة على قطاع غزة. فقد طلبت الولايات المتحدة من أنقره أن تتخذ هذه المواقف حماية لحليفتها إسرائيل وهذا ما حدث. وقد حاولت بعض الدول الإسلامية، وكثير من الدول الغربية أن تشير إلى تركيا تحت حكم حزب إسلامي يشـــكل نموذجا يؤكد أنه في الامكان إقامة نظام ديمقراطي إسلامي يواكب العصر.
تبنى نظـــام محمد مرسي في مصر هذه النظرية، وكذلك في تونس، ولكن سرعان ما تبين خطأ هذا التفكير، فقد ظهرت بعض المؤشرات عن نية تركيا اتخاذ مواقف تحاول من خلالها فرض مواقفها على دول المنطقة، لدرجة أن بعض الدول اتهمتها بأنها تحاول أن تعيد إلى الحياة الحكم العثماني، وأن الإصلاحات الاجتماعية تصب في خانة التفكير الديني.
هكذا دخل النظام التركي على خط المواجهة مع سورية، منضما إلى ما عرف بالتجمع السني ضدّ التجمع الشيعي، وتحركت بأوامر دول غربية في مقدمتها الولايات المتحدة، ففتحت حدودها للاجئين السوريين وللمرتزقة الذين جاءوا للجهاد في سورية، (ولكنهم لم يأتوا للجهاد في غزة ضدّ عدو العرب الأول ـ إسرائيل)، وأدى ذلك إلى انطباع أن الحرب الدائرة هي حرب طائفية وليست مخططا استعماريا غربيا ـ إسرائيليا، هدفه إعادة تقسيم جغرافية منطقة الشرق الأوسط بعد مضي حوالي مئة سنة على التقسيم الذي فرضه اتفاق سايس ــ بيكو. وانخراط تركيا في المعسكر الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط، ووضع يدها بيد دول عربية تعمل على تقسيمها، والمشاركة في حرب ضدّ دولة إسلامية على أساس طائفي، كانت اسبابا اخرى زادت من غضب الشعب في تركيا.
والذي لم يفهمه النظام التركي ولا الأنظمة العربية التي تبنت الفكر الغربي الصهيوني وحتى الدول الغربية التي عملت دائبة على تنفيذ مخطط التقسيم الجديد للمنطقة، هو البعد القومي لشعوب المنطقة. ربما تكون المجموعة الحاكمة في سورية تنتمي للطائفة العلوية، ولكن الأيديولوجية الرسمية للحكومة هي البعثية، التي تشكل مزيجا علمانيا من الاشتراكية، ومقومات الحركة القومية العربية المتمثلة بالعروبة، إضافة إلى أن حزب البعث لا يضم علويين (يشكلون 12 بالمئة من سكان سورية والأغلبية سنية) فقط بل يضم سنيين ومسيحيين ودروزا.

‘ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هدهد الدريقات:

    هل ما زلتم تصدقون بأن هناك ديمقراطية في تركيا مع مئات الصحفيين في السجون التركية … لأن الديمقراطية بدون سلطة رابعة لا وجود لها في قاموس السياسة Politics .

  2. يقول غسان منّير:

    اما يفعله اردرغان ، فعله بالماضي اتاتورك عندما لغى الحروف العربيه وادخل الحضاره الغربيه المختلفه عن حياه الناس ، الى تركيا وبالقوه ؟؟؟؟؟؟ يعني الجميع يشهد ان الانتخابات في تركيا ديموقراطيه والشعب اختار ممثله مره بعد مره ، فلا يحق لمن فاز ان يقوم بتعديل حتى ولو خزئي ؟؟؟؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية