رغم استمرار تدهور الأوضاع العامة في بريطانيا منذ حوالي عقد ونصف من الزمان، فقد أثبتت انتخابات هذا الشهر أن الثقافة السياسية البريطانية لا تزال تتميز بفضيلتي النضج والتسامح، وأن هاتين الفضيلتين هما من أقوى صمامات الأمان التي تقي المجتمع مخاطرَ الاستقطابات الحادة والمغامرات الحارقة لكل المراكب. أما الخطر الأكبر الذي يمنعه صمام الأمان هذا فهو خطر الثورات. إذ إن بريطانيا ليست أعرق الديمقراطيات الليبرالية فحسب، بل إنها الديمقراطية الكبرى الوحيدة التي نجت من زلازل الثورات الشعبية، فحققت بالتطور السلمي التدريجي ما لم تحققه ديمقراطيات أخرى، مثل الفرنسية والأمريكية، إلا بالعنف والدماء والدموع.
ومن علامات نضج الثقافة السياسية في هذه الديمقراطية العجوز ذات الشباب الدائم ما لاحظه المعلقون الفرنسيون والأمريكيون من رقي أسلوب التعامل بين المنتصر والمنهزم. فقد راجت أشرطة كثيرة لكير ستارمر وريشي سوناك وهما يتمشيان معا ويتحاوران بكل لطف واحترام داخل مجلس العموم، «أم البرلمانات» وأشرطة أخرى لهما مع زملائهما في الحكومة العمالية الجديدة وحكومة الظل المحافظة وهم يمزحون ويضحكون بكل عفوية. وهذا في واقع الأمر مشهد مألوف في الحياة السياسية البريطانية تكرر على مدى العقود الأخيرة بين إدوارد هيث وهارولد ويلسون، وجيمس كالاهان ومارغريت تاتشر، وجون ميجور وتوني بلير، وغوردون براون وديفيد كامرون، بل وحتى بين بوريس جونسون وجيريمي كوربن رغم التناقض الكامل بين الشخصيتين فكريا وأخلاقيا.
مشهد «التحضر السياسي البريطاني» على النقيض من الحياة السياسية الأمريكية التي صارت عرضة للهزات والتقلبات، وللاضطرابات الناجمة عن استفحال نظريات المؤامرة
إلا أن الذي جعل هذا المشهد البريطاني يحظى بالانتباه والإشادة هذه المرة هو التناظر اللافت بينه وبين مشهد البغضاء والشحناء الذي يهيمن على الحياة السياسية في كل من فرنسا وأمريكا. لهذا كتبت المعلقة الفرنسية ماريون فان رنترغن أن «ثمة بلدا متحضرا هو بريطانيا، حيث يتحاور رئيس الوزراء العمالي الجديد بطريقة طبيعية مع سلفه المحافظ. وثمة في المقابل بلد صبياني هو فرنسا التي لا تستطيع مجرد النقاش مع نفسها من أجل اختيار رئيس وزراء». وما تُعرّض به الصحافية هنا هو كثرة الخصام بين المجموعات البرلمانية الفرنسية وداخل كل منها، والتوتر الشديد الذي يختزله ذلك المشهد التلفزيوني الذي ضجت به وسائل التواصل، عندما رفض عشرات من نواب الجبهة الشعبية الجديدة مصافحة النائب القائم على الصندوق أثناء الاقتراع على رؤساء اللجان (وهو أصغر النواب عمرا، حسب العرف البرلماني) لأنه من التجمع الوطني اليميني المتطرف. أما عبارات الترحيب التي لقي بها سوناك خصمه ستارمر في أول جلسة في مجلس العموم بعد انقلاب الأدوار بينهما، فقد وصفها الفيلسوف الفرنسي إيتيان كلاين بأنها درس لكل من يريد أن يتعلم. وقد أجمع المعلقان البريطانيان المتميزان أندرو مار وأندرو نيل والمؤرخ البريطاني سايمون سيباغ مونتيفيوري أن مشهد «التحضر السياسي البريطاني» هذا هو من دواعي الفخر، وأنه على النقيض من الحياة السياسية الأمريكية التي صارت عرضة للهزات والتقلبات، وللاضطرابات الناجمة عن استفحال نظريات المؤامرة. وأبرز دليل على ذلك أن ترامب لا يزال إلى اليوم يشكك في نتائج انتخابات 2020 وينعت بايدن بالرئيس غير الشرعي، كما أنه مُتماد منذ مدة في التهديد بأنه لن يقبل نتيجة الانتخابات القادمة إلا إذا أعادته إلى الحكم، أما إذا منحت الفوز للخصم فذلك يعني حتما أنها مزورة!!!
وهذه الهزات والاضطرابات والنظريات التآمرية هي سبب ما ذكرناه الأسبوع الماضي عن انتشار المقارنة، في أوساط المؤرخين، بين ترامب ويوليوس قيصر وبين الولايات المتحدة والإمبراطورية الرومانية في أواخر عهدها الجمهوري. إلا أن المؤرخ نيل فرغسون يقترح مقارنة مغايرة، حيث يقول إن انتخابات 5 نوفمبر ستفرض على الولايات المتحدة أن تختار إما الجمهورية أو الإمبراطورية: إذا فاز المرشح الديمقراطي (كاميلا هاريس، على الأرجح) فإن هذا يعني استمرار المؤسسات والجمهورية ودولة القانون، ولكن نهاية الإمبراطورية (أي نهاية البعد الإمبريالي للسياسة الأمريكية). أما إذا فاز ترامب («المجنون الموثوق» الذي يهابه كل من شي جينبنغ وبوتين، حسب زعم فرغسون) فإنه سيحافظ على الإشعاع العالمي للبلاد، ولكنه لن يحقق ذلك إلا بتدمير الجمهورية، تماما كما فعل أوكتافيانوس عندما أسقط الجمهورية عام 27 قبل الميلاد وقضى بأن يتوج إمبراطورا ويحمل لقب أوغسطس. وربما تعجب هذه المقارنة أنصار ترامب، ولكنها لا تستقيم لأنه لا بد للإمبراطورية من جاذبية القوة الناعمة. أما ترامب المتقلب أبدا، والذي يهدد الحلفاء قبل الأعداء، فإنه لا يشيع إلا منطق القوة الغاشمة.