لأننا نحب أفلاطون أكثر من محبتنا للقذافي، غفرنا للأول وضحكنا من الثاني، عندما سخر من وجود الدهماء فوق الكراسي.
الحقيقة الأسوأ أن كره الديمقراطية لم يوحد بين فيلسوف وديكتاتور مخبول جاء بعده بألفين وخمسمئة عام وحسب؛ فعدد من يكنون العداء ذاته يؤكد أن حب الديمقراطية هو أوسع الشائعات انتشارًا.
كلمة ‘الديمقراطية’ ذاتها شتيمة تم اختراعها في بلاد الإغريق القديمة لوصف حكم العامة الشائن، وظلت الكلمة مرادفة للبُغض بالنسبة لكل من يرون أنفسهم متفوقين بسبب الميلاد أو الدين أو ملكية المال وملكية السلاح. لكن ما يناقشه جاك رانسيير في كتابه ‘كراهية الديمقراطية’ هو أنواع الكراهية الجديدة المشوشة إلى حد كبير، حتى أن الكثير من المفكرين يشجبون الديمقراطية بسبب ما يصاحبها من انفلات في رغبات المجتمع الجماهيري الحديث إلى حد تقويض سلطات الدولة، وهم أنفسهم يهرعون إلى تأييد نشر الديمقراطية بالسلاح.
هذا الخطاب المزدوج حول الديمقراطية صار جزءًا من قدرها، حيث اعتدنا أن نسمع أن ‘الديمقراطية هي أسوأ أنواع الحكم، باستثناء ما عداها’. الجملة الالتفافية المتحذلقة حول الديمقراطية لا تعني رفضًا بل قبولاً على مضض، وبصياغة أسهل نقول ‘الديمقراطية هي نظام الحكم الأقل سوءًا’.
وإذا جاز لنا أن نربط الربيع العربي بالديمقراطية، باعتباره توقًا إليها، يمكننا القول إن ربيع العرب هو أسوأ مناخ، باستثناء الفصول الأخرى.
باستثناء آلام سوريا غير المحتملة، فإن انطلاق الربيع أفضل من غيابه. آلام التغيير إذا لم يخالطها إجرام التدخلات الخارجية محتملة بالقياس إلى بهجة الأمل التي تستشعرها الجموع عندما تملأ الميادين.
لا يمكن أن يكون الربيع كارثة، بعكس ما يعتقد أنصار الدولة القديمة أو اليائسون ممن تصوروا أن الزهور يجب أن تتحول إلى ثمر في يوم إزهارها.
حسب الربيع أنه أمل، مثلما لم تزل الديمقراطية أملاً رغم تاريخ تعثرها الطويل، وليس من الشهامة أن نكفر بالربيع الذي لم تمض عليه سوى ثلاث سنوات، علمًا بأن عثراته الحالية هي ذات العثرات التي تواجهها الديمقراطية في كل مكان، وإن اختلفت المظاهر ودرجات العنف التي تواجهها من القوى الكارهة لها.
يفند جاك رانسيير عبر كتابه الصغير الملهم أنواع الكراهيات القديمة والجديدة للديمقراطية، أنواع التشوهات، بل أنواع الجرائم التي ارتكبت باسمها، وأنواع الجرائم التي صاحبت ميلادها، ثم يرصد تحول الدول الديمقراطية إلى أوليجاركيات حديثة تحكمها قلة جديدة متفوقة، لكنه لا يعتبر أنها انتهت كأمل يؤسس لإمكانية حكم رشيد، يوازن بين متطلبات مؤسسات الدولة ورغبات الجمهور.
‘ ‘ ‘
الديموقراطية مرادف للبُغض بالنسبة لكل من يرون أنفسهم متفوقين بسبب الميلاد أو الدين أو حيازة المال أو السلاح. بعض هؤلاء يواجه الديمقراطية بسفور، وبعضهم يراها واقعًا لا يمكن تجاهله فيعمل على الالتفاف عليه، وهو ما أدركه آباء الدستور الأمريكي الذين صنعوا التحالف مع الديمقراطية من أجل استخلاص أفضل ما يمكن من الواقع الديمقراطي، مع احتوائه بصرامة عبر التوازن بين الآليات المؤسسية التي تضمن الحفاظ على قاعدتين: حكم الأفضل، والدفاع عن نظام المِلكية.
ولم يكن صعبًا على ماركس الشاب أن يكشف كيف ضمنت مؤسسات الديمقراطية استقرار سلطة الطبقة البرجوازية، مطالبًا بديمقراطية مساواتية تضحي بحقوق الأفراد من أجل ديانة المجموع.
ومن هذه المعارضة لا يجد رانسيير صعوبة في استنتاج أن إرهاب استالين باسم المجموع قد ولد من إرهاب الثورة الفرنسية باسم الفرد. وأن ديمقراطية أوروبا لم تستمر إلا بفضل إجرام آخر.
يعرض رانسيير لكتاب جان كلود ميلنر ‘الميول الإجرامية لأوروبا الديمقراطية’ الذي نشره عشية غزو القوات الأمريكية لبغداد بزعم نشر الديمقراطية. يؤكد ميلنر أن ديمقراطية أوروبا الغربية لم تكن ممكنة عام 1945 إلا بإبادة اليهود، فالديمقراطية الحديثة تعني تحطيم الحد السياسي بواسطة قانون اللامحدودية، ولم يكن تطبيق هذا ممكنًا إلا عبر التخلص من مبدأ محدودية النسب والتجنيس، عبر تقنية أفران الغاز.
اليهودي الذي يحافظ على حد النسب، هو المضاد للديمقراطية، وقد حققت أوروبا حلمها ووحدتها بالتخلص من اليهود. هذا هو ما يقوله بوضوح ميلنر اليهودي الأصل. ليصل إلى القول بوضوح أن السعي إلى السلام في الشرق الأوسط جريمة ثانية تقود إلى دمار إسرائيل.
ألا يجعلنا هذا نفهم أن المغزى العميق من زرع إسرائيل في قلب العالم العربي كان تحقيق العكس: جعل الديمقراطية والوحدة العربية مستحيلتين؟ وألا يشككنا هذا في مناوشات السلام التي تبدأ دائمًا لتنتهي إلى لا شيء؟!
تكفينا هذه الشكوك، إذ لم تعد الكراهية الغربية للديمقراطية العربية محل شك، بعد أن دخلنا سنة رابعة من التخريب.
‘ ‘ ‘
إذا كان اليهودي حالة واضحة من التعارض مع الديمقراطية، فإن أعداءها كثر، من القائلين بحق الأذكياء والمستندين إلى الثروة في الحكم. لكن، ماذا عن الجمهور، ألا يتحمل نصيبه من الذم؟ ألم يشارك بحصته في إخفاق الديمقراطية؟
شجب ماركس أنانية الطبقة المستغلة من كبار الرأسماليين حائزي وسائل الإنتاج، لكن الحكمة المعاصرة يجب أن تشجب أنانية المستهلكين الشرهين.
من حسن حظ الأعداء أن الإنسان الديمقراطي المطالب بالحرية هو في الآن ذاته مستهلك شره يتمادى في طلب الرفاهية إلى الحد الذي يجعل الأزواج المثليين يتمسكون بحقهم في تكوين أسرة!
رغبة المثلي في الجمع بين أقصى الحرية وبين تكوين أسرة تلخص جريمة إنسان اليوم ضد الديمقراطية، هذه الجريمة التي يقود التمادي فيها إلى تمدد المجتمع إلى حد ابتلاع الدولة بمؤسساتها، لكن هذه المؤسسات بقيت موجودة لتصنع أوليجاركيات جديدة تحكم المستهلك الضعيف.
الديمقراطية المباشرة التي كانت ممكنة في القرى الإغريقية القديمة لا يمكن تطبيقها في الدول الكبيرة، لذا كانت الديمقراطية التمثيلية، حيث يختار الناس ممثليهم الذين سيحكمونهم دون إعاقات كبرى لسنوات محددة.
من حق الجميع نظريًا أن يحكم، لكن الواقع يقول إن هناك في كل مجتمع ديمقراطي طبقة من اليمين واليسار تحترف السياسة وتتناوب الحكم مرة بعد مرة، تتخرج في الغالب من ذات المؤسسات التعليمية، فأصبحت هذه التداولية الشكلية نوعًا جديدًا من حكم أقلية، يدوم من خلال اللعب على التخوم، وتحقيق التوازن بين ‘المواطن’ الحريص على وجود دولته واستمرارها وبين ‘الإنسان’ المتطلع إلى المتعة والتخلص من سطوة المؤسسة.
هل لنا أن نتأمل ‘مواطن الربيع العربي’ التواق إلى التغيير وإنسان الربيع الذي لا يستغني عن الاستهلاك؟ في مصر، لم يغفر الثوار لمبارك، ولن يغفروا قريبًا، لكنهم غفروا للشركات التي قطعت الاتصالات لتصبح تصفية الثورة ممكنة.
عجز ‘المواطنين’ الذين طالبوا بالحرية والعدالة الاجتماعية عن إقرار وجهة نظرهم، لا يعود إلى أنهم بلا وجهة نظر كما يشيع أعداء الربيع، بل بسبب عجز الوجه الآخر للمواطن؛ وجه ‘الزبون’ الضعيف والأناني.
مع ذلك لا يجب أن نتوقف عن الحلم بقدرة الربيع على جلب الديمقراطية التي تظل أقل أنواع الحكم ضررًا.
المفهوم الحقيقي لأي نظام حُكم، ما كان يجب أن يخرج أبداً عن مبدأ العمل لخير الصالح العام. بعكسه، يعني من يخرج عن هذا المبدأ السوي، يكون خائن لشرف الذات والمهنة والأمانة الوطنية الملقاة على عاتقه. ومتى ما بقي منطق القوة المادية، خاصة المسلحة، هو الطاغي والمُتحكم في إرادة الشعوب، فحالة الإستئثار والإستقطاب والإستحواذ والفساد والجور والظلم كالتي تشهدها مصر للأسف تبقى هي سيدة الموقف، وهكذا ساعة الفرج لا تأتي أبداً، إلا بعد تغيير وسيلة الحُكم الإستبدادية بأخرى ديمقراطية. ومثل هذه الوسيلة يستحيل أن ترى النور على يد القيادات العسكرية لإفتقارها لفنون الإدارة المدنية الديمقراطية للدولة، بحكم طبيعتها المهنية المتشددة المتصلبة الآمرة الناهية، لذلك لا يُعقل أن تكون هذه القيادات عوناً لحركة النهضة والبناء والتقدم الشاملة المستدامة، كونها كانت ولا زالت إن لم نقل أصل الداء، فقطعاً شريكة فيه.