أصبح موضوع علاقة الدين بالسياسة مطروحا بشدة في السياق الاجتماعي السياسي العربي الحالي، والدولي أيضا، بعد الثورات العربية وفي ظل ما سمي بالإسلام السياسي وما أفرزه هذا الأخير من تساؤلات ومخاوف من جانب البعض، خاصة في الغرب، لكن هل تثبت المخاوف أمام التحليل الموضوعي؟ ليس العالم العربي وحده عرف في التاريخ مشهدا سياسيا يتداخل فيه الديني بالسياسي، كما يقال. فقد حكمت دولا غربية كثيرة، وبعضها إلى الآن، أغلبيات سياسية تستمد قاعدتها النظرية من الفكر المسيحي. كفانا، على سبيل المثال، إلقاء نظرة على ما سمي بالديمقراطية المسيحية في فترة من فترات التاريخ الفرنسي. فبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بعد شهر واحد من تحرير باريس من الاحتلال الألماني، تأسس حزب سمي بـ’التجمع الجمهوري الشعبي’، وصف نفسه بحزب المقاومين الديمقراطيين المسيحيين، وبنى توجهه الحزبي على أساس امتصاص القطيعة التقليدية بين اليمين واليسار والوفاء لسياسة الجنرال ديغول. احتل الحزب الجمهوري الشعبي الفرنسي ذوالتوجه المسيحي موقع الأغلبية في الجمعية التأسيسية الفرنسية الثانية عام 1946 في حكومة وطنية موسعة جمعت طيفا عريضا ينتمي لعدة أحزاب ينطلق من اليمين المحافظ، مرورا بالوسطيين، وينتهي بالشيوعيين. ثم ما لبث أن أصبح التجمع الجمهوري الشعبي أول حزب في المشهد السياسي الفرنسي بعد احتلاله مركز الصدارة من جديد في الجمعية الوطنية الفرنسية الأولى للجمهورية الرابعة. ولا أذكر أن مؤرخا أو مراقبا واحدا تحدث بشأن هذا المشهد السياسي الفريد عن تداخل الدين بالسياسة، كما يجري الحديث اليوم صباح مساء وبمناسبة وبغير مناسبة. فماذا كان الرهان؟ كان الرهان إعادة هيكلة المشهد السياسي الفرنسي بعد الدمار العسكري والمدني والنفسي الذي أعقب الحرب، لتكتمل عملية إعادة الهيكلة، إلى تفعيل جملة من القيم مثل النزاهة والعدالة والالتفات إلى حاجيات الناس ومد يد العون لهم. يبدو كأننا اليوم، في ظل المشهد الجديد الذي أفرزته الثورات العربية، أمام مشاهد سياسة شبيهة بهذه المعادلة. فهل المسألة الأساسية، إذن، مسألة تداخل؟ أليس الأحرى بالساسة الغربيين أن يفهموا، والأحرى بالأوساط الثقافية الغربية أن تفهم، أن الشعوب العربية منهمكة الآن في تحد بالغ الأهمية، يكمن في التفاعل مع رهانات التحكم في مساحات من الحرية غير مسبوقة؟ أليس على هذه الأوساط أن تفهم أيضا أن الشعوب العربية هي التي تقرر كيف ستملأ هذه المساحات؟ من أين تصدر التخوفات من ‘إحكام الأحزاب الدينية قبضتها على أجهزة الحكم وأطره السيادية’؟ ألا تصدر أساسا عن عدم إدراك مروجي هذه التخوفات من أن أحزابا، أو جماعات تتبنى قيما دينية بشقيها المعتقدي والسياسي، متى تقدمت للانتخابات وكسبتها، فإن أول ما تستحقه هو الاحترام؟ صدرت يوم الأحد 24 شباط / فبراير 2013 في الصحافة الفرنسية مقابلة مع رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتذمر فيها من أن فرنسا’ اقل البلدان فهما للإسلام والتونسيين’. جاء كلام الغنوشي ردا على تصريحات وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس، مفادها بأن تونس ‘لا تقدم نموذجا مشرفا للربيع العربي’. اثارت تصريحات الوزير الفرنسي ضجة إعلامية كبيرة، الى درجة أنها تحولت الى سؤال لاستطلاع للرأي شهير لفضائية عربية لا تقل شهرة. الاشتراكية الفرنسية تشكيلة سياسية عودتنا، متى استثنينا بعضا من وجوهها البارزة التي تؤاتيها شجاعة القفز فوق الانضباط الحزبي عند الضرورة – على تلقين الدروس للجميع بلا تمييز، من دون تقديم أي اقتراح ولا بديل، كما تبرع في التغني بقيم الديمقراطية والدعوة لاحترام الآراء وضمان الحقوق الفردية والحريات العامة، وغيرها من المثل الحميدة النبيلة، ولكنها في الوقت نفسه لا تفوت الفرصة أبدا لتصويب سهامها في اتجاه من يرغب في تكييف الأمور على غير هواها. وبصورة عامة، ثمة شيء يبدوعلى مفكرينا ومسؤولينا في الغرب مستغلقا موصدا لم يستوعبوه بعد: لم يستوعبوا أن الاقتراع الديمقراطي كضمان للمصداقية مبدأ لا يمكن التفريط فيه. فوصول حركات سياسية إسلامية الى سدة الحكم في سياق الثورات العربية رسخ لدى هؤلاء الصورة النمطية بأن الأمر مناف للديمقراطية بامتياز. وترسخت في نفس الوقت الصورة النمطية المكملة للأولى، وهي أن ‘هؤلاء مخيفون’… ففي الوقت الذي يقع في الغرب الحديث ليل نهار عن تعدد التيارات واختلاف التوجهات الفكرية والعقائدية والحزبية، يقع التعامل مع الإسلام وكأنه كتلة واحدة لا مكان فيها لتضارب الآراء واختلاف التآويل. دعوني هنا أروي حكاية من الطفولة، كنا في زيارة عائلية فأخذتني أمي إلى كنيسة جدتي، ‘كنيسة جيلها’- كما قالت، لحضور قداس الكنيسة المسماة بالتقليدية، الكنيسة المنشقة عن مجمع فاتيكان 2 الكنسي الشهير. كانت البنات في هذا القداس يغطين رؤوسهن، فيما كان القس يدير ظهره لجماعة المصلين، بينما، في قداس المذهب الروماني الذي كنا نعتاده يواجههم .وكانت الترانيم باللغة اللاتينية. أتذكر جيدا كيف لدى خروجي من القداس، المختلف تماما عن قداس الأحد المعتاد لدينا، سألت والدتي، ما الذي حدا بها إلى القدوم لمثل هذا التجمع الذي وصفته إذاك بالغريب، فدعتني إلى احترام من لا يصلي، وربما من لا يفكر، مثلنا، ولكنه، في نهاية المطاف، يدين بديننا، وينتمي فوق كل اعتبار، إلى أسرة المؤمنين. وهنا أتساءل: أليست بذور التفتح والتسامح واحترام غيرنا، من دون أن نتقاسم توجهاته بالضرورة، بذورا ينبغي أن تزرع فعلا منذ الصبا؟ ورد في جريدة ‘لوموند’ الفرنسية قبل شهر تقريبا استطلاع للرأي مفاده بأن 70 بالمئة من الفرنسيين يرون أن الإسلام ‘يسعى لفرض نهجه على الآخرين’. أتساءل هنا كيف يمكن أن تكون لمن لا يعرف عن الإسلام شيئا، أو بالكاد، رؤية في الموضوع. أعلم هؤلاء بوجود المتصوفين؟ أقرؤوا ابن العربي والحلاج؟ اسمعوا عن المعتزلة؟ ثم ألموا بكلام السيد المسيح الذي دعا في الإنجيل إلى إكرام المهاجر الذي كد واجتهد وتعب من سفر شاق وطويل ليجد قوت رزقه في أرض الاغتراب؟ أيتذكر هؤلاء أن القضية الروحانية قضية دينية مشتركة بين المؤمنين؟ فما وجه مقاربة علاقة الدين بالسياسة في العالم العربي والإسلامي مقاربة مختلفة عن المقاربة العامة الموضوعية التي يتوقع لها أن تسود في أي تحليل جيوسياسي خليق بهذا اللقب؟ نعم، من المفروض أن تسير الأمور على هذه الشاكلة من التسامح ومن تقاسم الهموم والمؤاخاة، ولكن هذا لا يعفي هذه القوى السياسية الجديدة، التي لا خبرة لها بممارسة الحكم على الإطلاق، من أن توضع على المحك وتخضع لامتحان . فكثيرا ما ننسى أيضا أن الانتخاب امتحان، امتحان يقف له الرأي العام، العربي والدولي، بالمرصاد. والحال لا يزال على درجة كبيرة من الضبابية والغموض. كلنا، في الغرب، سيسعد إن كانت الثورات العربية ستولد حكومات ديمقراطية مستقرة وحديثة، لكن الأمر صار الآن شأنا داخليا على علاقة بآليات التحول الذاتية لهذه البلدان. أذكر محادثة مع صديقة صحافية في جريدة ‘لا ريبوبليكا’ الإيطالية عندما سافرت إلى روما لإعطاء محاضرة في المعهد البابوي للدراسات العربية والاسلامية في الفاتيكان. قالت لي: ‘مشكلتكم هي العلمانية. ترفضون أن يطرح العنصر الديني في النقاش العام فيجد الكثير من سكان فرنسا أنفسهم مهمشين في بلدكم.’ بالأحرى، العلمانية كما نتأولها اليوم هي التي تخلق المشكلة. العلمانية أصلا، لا تعني استبعاد الدين من الساحة العامة، بل تعني العكس… فكلمة لايكوس اليونانية، أي علماني، تشير في معناها الأصلي إلى محفل المؤمنين الذين لا ينتمون الى الهيئة الإكليركية، إلى الإطار المؤسساتي الموكول إليه إدارة شؤون الكنيسة. فقط بظهور قانون فصل الدين عن الدولة الشهير لعام 1905 في فرنسا أصبحت تدل كلمة علماني على قطيعة بين الدين والدولة. لكن القطيعة وقعت على نحو جعل من الحديث عن الدين في المجال العام إشكالا. كانت نية مبرمي القانون فصل السلطات عن بعضها، وتحقق الفصل فعلا، لكن تحقق معه أيضا فصل عن الحديث عن الدين في المجال العام لم يساعد على النظر إلى الدين، في مشروع سياسي، كمقترح تنظيري جامع لقيم لا تتعارض، بل تتوافق مع مشروع اجتماعي يضم المتدينين وغير المتدينين إلى حد سواء. ولعل هذا مكمن مشكلتنا نحن الفرنسيين عندما ننظر إلى من لا نعده ‘مثلنا’، مشكلة قائمة على عدم إدماج المعطى الديني في إطار تحليلي موضوعي أشمل لا مجال لشموليته وموضوعيته إلا بسعة صدر وبهدوء.