الدّسّاس تلد!

حين تكون مدرس لغة عربية فكن على استعداد أن يسألك الناس في كل مكان عن كل شيء وعليك أن تجيب ولا عذر لك إن أنت تأخرت أو تفكرت، فهذا يعني أنك لست على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقك.. فأنت لا تعرف.
«أنت لا تعرف» هي في حياتنا العامة أكثر إيذاءً من الاتهام بالجهل؛ فالجاهل يعذر بجهلك، ولكن الذي لا يعرف لا عذر له، لأن عليه أن يعرف وفوت على نفسه قطارَ المعرفة في أشياء لا قيمة لها. يُسأل مدرس العربية عن أحلى الأسماء؛ يهمس في أذنه من زوجُه ستضع أولى مولودها: أستاذنا.. أريد اسما جيدا للمولود الذي سيأتي.. ثم يلتفت يمنة ويسرة ويقول: هي أنثى هلا اخترت لها اسما جميلا؟ هل ستقول له إن الأعلام لا تذكر ولا تؤنث وأن اسمي أنا توفيق مثلا كان ذات مرة اسما تتسمى به الإناث، وفجأة وضع لأعلام الرجال، ولا مانع أن يسمى به ذاك وهذا. ليس مسموحا لك أن تخاطب العامة بما لا يعرفون لا لأنهم لا يعرفونه بل لأنه لا يعنيهم.. سيتثاءبون وأنت تحكي لهم عن أن الأصل في الأشياء أن الأعلام منفتحة على الجنسين، وسيسمعونك إلى الآخر وسيقولون لك: ماذا قلت يا أستاذ؟ سؤال يعني أنهم لم يكونوا معك على الخط وأنهم ظلوا حيث تركتهم. تبحث لهم عن أجود الأسماء في التاريخ وفي الجغرافيا وحين تملي عليهم أسماءك لكنهم سيسمون الصبية باسم آخر يسمونها باسم بطل فيلم هندي أو تركي أو مكسيكي وهم يعرفون أن تسجيل الأسماء في الدفاتر الرسمية شرط من شروطه أن يكون عربيا مبينا، لكن من سيحكم على عربيته؟ لا أحد غير موظف التسجيل أو سيده أو سيد سيده، وهم قوم أصحاب ذوق واجتهاد يختلفون ولا يستشيرون غير أنفسهم وبعد ذلك يسجل القلم.

حين تكون أستاذا للغة العربية، يمكن أن يأتيك الطلاب من كل حدب وصوب بقضية من القضايا التي ينسبونها إلى العربية، وأغلبها ليس منها وما عليك إلا أن تجيب.

حين تكون أستاذا للغة العربية، يمكن أن يأتيك الطلاب من كل حدب وصوب بقضية من القضايا التي ينسبونها إلى العربية، وأغلبها ليس منها وما عليك إلا أن تجيب. يمكن أن تكون المسألة في الفقه أو في تفسير القرآن، ويا ويلك إن أنت خالفت واجتهدت من عندك وخرجت عن قول المفسرين عندها سترمى بالتأويل المذموم. المهم ليس سهلا أن تكون مدرس لغة عربية لأن زملاءك من بقية الألسن والاختصاصات سيطلبون منك أن تقوّم لهم استعمالا أو تبحث لهم في معجمك الذهني عن عبارة تناسب مصطلحهم الأعجمي بالعربية، ولن يصدقك أحد إن قلت له إنه لا يحيط بلغة إلا نبي، وأنت أن اللغة لا يمكن أن يستوعبها ذهن واحد ولا يمكن أن يتكهن المرء بما سيجد في معجمها مستقبلا.. إن قلت ذلك سقطت في التأويل المذموم.
تذكرت كل هذا حين جاءني طالب وأنا بين صفين وسألني: هل تلد؟ قلت له وأنا أبتسم: لا حول ولا قوة إلا باللهǃ قال لي إنها لم تلسع أحدا.. قلت له: أحية هي؟ قال ورقطاء.. قلت له: إذن تلد.. قال لي أنت على رأي الجاحظ .. قلت أنا إذن معتزلي أهذا قصدك؟ قال: ربما ومضى. لعنتُ صيغ المبالغة المنقلبة عليّ وعدت أفتح الشبكة العنكبوتية، وجدت نص الجاحظ في الحيوان: «وزعم لي بعضُ العلماء ممن روى الكتب، وهو في إرث منها أن الحية التي يقال لها تلد ولا تبيض؛ وأن أنثى النمور لم تضع نمرا قط إلا ومعه أفعى».. كم كان ذهني تآمريا حين فهمت على أنها المرأة الخبيثة التي تصنع الدسائس، وأنها حين تلد يمكن أن يحمل نسلها بذراتها، وأن الدسيسة يمكن أن تورث في الجينات.. بعقلي لَوْثَةٌ دخلت إليه من بين يدي أو من خلفي الثقافي؛ سهرت الليالي أتطهر من أدران محيطي، لكنني ربما نمت فدخلت من فتحة خيشومي وذهب تسريا إلى الدماغ.. هذه المعاني كيف تتقلب؟ يكفي أن تمسك بطرف حتى يبدو لك أنه الرأس.. همس لي أبو عمرو بن العلاء أحد زعماء اللغة وجماعيها في التراث: « من الحيات الذي لا يُدْرَى أي طرفيه رأسُهُ وهو أخبثُ الحيات يندس في التراب فلا يظهر للشمس». قلت يا أبا عمرو يا ابن العلاء حكايتك أعجب من حكاية الجاحظ وعلمائه.. أنتم لا تَرْوُون؛ أنتم تؤولون تريدون أن تجعلوا الرمل ترابا والحية برأسين وترون الاختباء لا حماية، بل دسيسة.
يريد أبو عثمان الجاحظ أنْ يصدق علماء ورثوا العلم كابرا عن كابر، ونسلم لهم أن هذه الحية تلد ولا تبيض سنسلم لهم كما يريدون؛ لكنْ أن تلد أنثى النمر مع صغيرها حية فهذا لا يسلم به إلا من اعتقد أن هذا من عدل الحيات: تريد أن يلدها الله مع فريستها.. للحيات أحلام منها ألا تشقى في البحث عن فريستها في بلد يمكن أن يتنمر فيه أهلها يقال لهم لا تخابثوا ولا تغيروا جلدتكم ستلد أمكم لكم عدوا، تعجبت من هذا العقل العلمي لا يكفي أن يأتي بالعجب، لكنه يتكيف مع محيط من الدسيسة. عدنا إلى أصل المعنى وأن أنثى النمر هي التي تلد، ولكن انقلبت الحكاية صارت الدسيسة مرتبطة بشخص من زوّر الحكاية وعدّ الخبر علما لا يسري إليه الشك.
في عصر العلوم المنشورة من العيب ألا نترك الخبر معلقا: هي تسمية عربية لجنس من الأفاعي اسمه العلمي Eryx وهو من فصيلة من الأفاعي تعرف بالأصلة أو البواء تلد فعلا ولا تبيض (صدق الخبر) وتعصر فريستها حتى الموت ثم تلتهمها؛ هي غير سامة وتعيش في البيئة الرملية، لأنه يسعفها بالسريان، ولكنها تعيش أيضا بين الصخور. وفي أنواع فمنها العربي والمتوسطي والصومالي. بحثت عن صور لهذا الكائن دخلت إلى فيديو لشباب في الصحراء يحاصرون نوعا من أنواع الحيات، يعرف محليا باسم أم جنيب وبالفصحى بالقرناء كانوا يقتفون آثارها وجدوا جحرها، فسكبوا فيه الماء فخرجت من جحرها التقطوا لها الصور وقرروا في النهاية ذبحها، أنا لست متأكدا من أن التي تحدث عنها الجاحظ هي نفسها أم جنيب أم لا، لأنني أعرف أن الأسماء الفصيحة ليست هي الأسماء العامية، وأن للفصحاء تسمياتهم وللعلماء تسمياتهم وللعامة تسمياتهم وتجاربهم. لست متأكدا من شيء إلا مما رأته عيني من سعي الإنسان في أثر الحيات يريد أن يظفر بها قبل أن تظفر به، لا يعنيه كيف تلد، بل تعنيه كيف تقتل وكيف تموت. قبل أن أغلق الصفحة ناداني أبو عمرو بن العلاء وهمس في أذني: هل تعرف أن الجاحظ نفسه فيه أثر من حكاية الأفاعي؟ قلت: وكيف؟ قال: أليس هو أبو عثمان عمرو بن بحر؟ قلت: هو.. قال: ألا تعلم أن العُثمان فرخ الحية؟ قلت: هل تعني أن الحية تبيض؟ اغتم أبو عمرو وغاب في الكتاب.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية