الذائقة الشعرية والمترسخ العمودي: تعافٍ أم اعتلال؟

■ لا شك أنّ الذائقة الشعرية محضة خالصة وحرة، عمادها الحس المرهف الصافي النقي، ولأنها لا تكتفي بمقاييس السلف؛ لذا هي في حالة تطور يمكنها من تجاوز عقدة التبجيل لكل ما هو تقليدي ماض. وهذا ما فعله رواد الحداثة الشعرية، متقدمين بالشعر نحو الأمام، ومعهم تقدمت الذائقة الشعرية.
وعلى الرغم من أن شعرنا اليوم يشهد انعطافة ما بعد حداثوية، لكن ذلك يقتصر على الشعر فقط، أما على مستوى الذائقة الشعرية فإنه لم يتجل بعد، إذ ما زالت ذائقتنا الشعرية تتخذ من الرواد وما بعد الرواد نماذج تقيس عليها، واقفة عند معايير الذائقة الحداثوية، مع أن الحداثة غدت ماضيا ينبغي مغادرته إلى ما بعد الحداثة.
وما ينبغي أن نقتنع به هو ضرورة أنْ تظل عجلة الشعرية دائرةً لا تعرف الثبات، إذ أن المكوث عند زاوية ما، يعني تحجر الشعر وركوده. ومعلوم أن الذائقة ترافق الإبداع الشعري وهي ليست وليدة يومنا، ولا هي صنيعة جيل أو أجيال سبقتنا، أو هي موضة تتغير كل آن وتتبدل كل أوان؛ بل هي موجودة بوجود الشعر، ودائمة بدوامه لا ترتبط بحد أو أفق. إنها متغلغلة في لاوعينا ومتسربة في وجداننا ومتسمرة جينالوجيا فينا، تســــتثار عندنا حين نسمع كلاما غير عادي، أو نرى صورا ليست معتادة، فتنهض ثائرة مبتهجة أو غير مبتهجة أو تسكن منزوية صامتة.
ومرتع الذائقة الذهن ومادتها الإحساس، وتوجيه الذهن للإحساس يعني استثارة كوامن التذوق التي هي ليست محددة في لائحة أو متموضعة في قانون أو دستور، يجند لمهمة وضع بنودها ومعاييرها واضع محدد، أو توكل عملية صياغتها إلى صائغ معين. وتتقولب كوامن الذائقة ذاتها وتتحدد معاييرها من خلال إرادة جماعية توزعت بفردية، وسبرت العصور حتى ادخرت في أذهاننا مخزونة وقد تكتسب من الظروف المعيشة سمات تجعل هذا المخزون الذوقي مستمرا بالنماء، ولذلك لا عمر للذائقة فهي قديمة حديثة معا، حتى إذا استثير مخزونها اختلطت فتوة الجديد بوقار القديم، ولا سبيل للمرء إلا التسليم والطاعة لتلك الفتوة وذلك الوقار.
وعلى الرغم من أن كوامن الذائقة عتيدة ومضافاتها كثيرة؛ إلا إنها حين تستدعى تهب جميعها سريعا مستثارة بالدرجة نفسها ناهضة من رقادها بلمح البصر.
وتشير تاريخية الحداثة الشعرية إلى تحرر الذائقة الشعرية العربية الخمسينية من سطوة المترسخ العمودي، لكنَّ ذلك التحرر صار بمرور الزمن مترسخا أيضا، وهذا ما يقتضي التحرر منه انعتاقا وانبعاثا. وقد يردُّ على هذا الرأي بأنَّ لا أفضلية لقديم على جديد إلا بفنيته، وبهذا يظل الراسخ راسخا ما دامت فنيته دائمة، وهذا صحيح لكنه مشروط بأن لا يكون هذا الراسخ حجر عثرة أمام التغيير والتجديد.

ما زالت ذائقتنا الشعرية تتخذ من الرواد وما بعد الرواد نماذج تقيس عليها، واقفة عند معايير الذائقة الحداثوية، مع أن الحداثة غدت ماضيا ينبغي مغادرته إلى ما بعد الحداثة.

ونظرة إلى جينوم التاريخ الشعري المعاصر يؤكد لنا أنّ الحداثة الشعرية العربية كانت قد كسبت قبولا جماهيريا في الخمسينيات من القرن الماضي، لكن سرعان ما استعادت الشعرية التقليدية مكانتها، قبيل النكسة الحزيرانية، الأمر الذي حال دون أن تكون الذائقة الجمالية الحداثوية في الواجهة.
وعلى الرغم من أن التيار الحداثي عاد مجددا للنهوض بعد النكسة، لكن ذلك لم يدم طويلا بسبب ظهور أنظمة التسويف والقمع والتآمر على قضايا جماهيرية، في مقدمتها القضية الفلسطينية. وهكذا انفلت زمام الأمور من يد الحداثة مرة أخرى، وانطفأت شعلة التنوير وانكفأت الذائقة الجمالية وعادت الثقافة القهقرى إلى سابق عهدها. وكان من نتائج ذلك كله أن صمت بعض الشعراء الحداثيين وهجر بعضهم الآخر حداثتهم مثل، مظفر النواب الذي هجر القصيدة المتمردة واتجه صوب قصيدة العمود ذات الجرس القعقاعي، محققا بها رواجا رسميا وشعبيا كما في قصيدته «القدس عروس عروبتكم» وبعضهم القليل حافظ على شيء من سمات الحداثة متحليا بالنقاء والإخلاص للشعر ومنهم، فوزي كريم وسعدي يوسف وكاظم الحجاج وخزعل الماجدي وغيرهم.
ولم يختلف الحال كثيرا في التسعينيات التي وإن شهدت بعض الحركات التجريبية في كتابة قصيدة النثر والتماشي مع نظريات الشعرية الحداثية، وظهور جماعات شعرية. والمتحقق أن هذا التجريب لم يترك تغييرا ملحوظا في الذائقة الشعرية التي ظلت معتلة باعتلال الوضع السياسي والاجتماعي العام. وللكتابات النقدية أن تسهم في توليد ذائقة شعرية معافاة أو على الأقل تحرك ركود الذائقة، من خلال رصد الظواهر الشعرية وتقعيد تجلياتها، وفق رؤية تتحرى النص بنائيا، وفي الوقت نفسه لا تتحرز من التوغل في سياقاته ومدلولات تلك السياقات. وجدوى النقد أنه يستطيع أن يرتقي بالذائقة نحو تلمس جماليات القول الشعري، ومع بزوغ التغيير الذي به سقطت بعض الأنظمة الديكتاتورية مطلع الألفية الثالثة، والتغيير الجذري الذي شهده العراق في العقد الأول من هذه الألفية، أخذت بوادر التغير في الذائقة تلوح في الأفق. وبدأت ملامح جينوم شعري جديد يطرأ على البيئة الثقافية العربية، ضمن مرحلة جديدة أهم سماتها أنها تماشي النزوع ما بعد الحداثي للانفتاح والاندماج والتعدد. وبعد الذي تقدم هل يحق لأحدنا أن يتساءل عن خراب الذائقة ملقيا باللائمة على السياسة أو الاقتصاد أو الحروب والأزمات، أو مدعيا أن السبب هو الشعر الشعبي، كما ذهب إلى ذلك أحد كبار شعرائنا؟ إن السياسة والاقتصاد والحروب والأزمات الاجتماعية، كلها عوامل مهمة لا يمكن تجاهلها في التأثير في الذائقة الشعرية بخاصة، والذائقة الجمالية بعامة لكن هذا التأثير قد يكون سلبيا كما يمكن أن يكون إيجابيا.
وقد كانت تجربة مظفر النواب الشعرية ذات أثر مهم في تثوير اللهجة العامية العراقية، فكيف بعد ذلك نلوم الشعبية أو نتعالى عليها، أو نتجاهل فعل السياسة والاقتصاد، أو نتمركز في إبراج عاجية ونرى الشعر وحده في الساحة يطور نفسه بنفسه متجردا من كل ما حوله؟ والأهم من ذلك أن لا نسمح لنزعة ذاتية معينة أن تؤثر على أحكامنا، فلا نشخِّص الظواهر لأجل معرفة أسباب الخراب حسب؛ وإنما أيضا نبحث عن ممكنات الارتقاء، وعندها لن نغبن شعريتنا ولن نخون جمهورنا المتلقي. وهذه هي مهمة النقاد وليس الشعراء. ولا نعدم أن نجد شاعرا ينصِّب نفسه جلادا وقاضيا، تاركا الشعر ومنشغلا بالنقد، داخلا في ميدان هو ليس ميدانه، حتى إذا أخطأ لم يعرف أنه أخطأ.
والنقد مسؤولية يثقل حملها، وعليها تتوقف ذائقة المجموع. وكلما امتلك ممارس النقد المؤهلات الكافية، أداها خير أداء ومن تلك المؤهلات الوعي التاريخي الذي يجنب الناقد التخبط في الظلام ويسعفه من الوقوع في الجزافية والاستلاب.

٭ كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية