الذاكرة اليمنية للتدخلات الخارجية

حجم الخط
0

لعل مِن نافِلة القولِ بأن أي نزاع داخلي يعد مُدعاة وعامل جذب لتدخل إقليمي او دولي، وبدون الخوض في تفاصيل ذلك او على اقل تقدير النوايا، وتحليل الاستراتيجيات فتلك من بداهة الأشياء.
وفي رصد أولي للتدخل الخارجي في التاريخ السياسي لبلادنا غير بعيد عن الذاكرة اليمنية، شأنها شأن كثير من الأمم وليس في ذلك عيب، فاليونان صاحبة أول حضارة في أوروبا خضعت للتدخل حقبا زمنية من قبل الأتراك، كما ان العراق او الشام قلبا الحضارة العباسية والأموية، اللتين امتدتا للشرق والغرب احتلا من قبل دول الجوار تركيا وإيران، ومن قبل الانكليز والفرنسيين وغيرهم، وان مصر ودول المغرب العربي، تعرضتا أيضا في حقب متعاقبة لتناوب قوى الاحتلال لحين من الدهر، وغيرها كُثر.
وعرفت بلادنا كغيرها من بلدان المنطقة التدخل الأجنبي ابتداء من إيعاز الرومان لملك الحبشة بغزو اليمن تأديباً للملك اليمني ذو نوا الحميري، الذي اعتنق اليهودية واحرق نصارى نجران، ما حدا بالقائد اليمني سيف بن ذي يزن الى الاستنجاد بالفرس، غير مدرك حينها أن تلك الدعوة كانت بداية لأول تدخل فارسي في تاريخ اليمن، ولم ينقذ اليمن منه الا سقوط الدولة الساسانية ودخول اليمن الإسلام.
وكما خضعت اغلب البلدان العربية للحكم العثماني لعقود، فان خصوصية الحكم العثماني كانت على فترتين، فالاحتلال الثاني كان برغبة من اليمنيين بعدما عرفوا سنوات من الفوضى عرفت بسنوات (الفلّتِه)!
وشهد اليمن تدخلات لقوى إسلامية أخرى غير العثمانيين، كالأيوبيين على سبيل المثال، الذين نقلوا نفوذهم للدولة الرسولية التي كانت عاصمتها تعز، وهم من بنوا قلعتها الشهيرة، كما ان طغتكين ابن ايوب اخ القائد الناصر صلاح الدين هو من بنى سور مدينة صنعاء القديمة.
كما ان المصريين تدخلوا في اليمن في ثلاث حقب تاريخية مختلفة في عهد الفاطميين وحكم الملكة السيدة اروى بنت احمد، وفي عهد حاكم مصر محمد علي باشا، وكذا في العصر الجمهوري غداة الثورة اليمنية، والتاريخ يعيد نفسه ولكن من قوى اخرى وبصيغ مختلفة، فبدلا من إرسال جيوش جرارة، غدا الأمر بصيغ حديثة كالطيارة بدون طيار وإرسال زوارق او بوارج ونحو ذلك.
ومن ضمن القوى الغربية التي تدخلت في شؤون اليمن في تأريخها الحديث عدة إمبراطوريات غربية بدءا من البرتغاليين والطليان وحتى الانكليز في عدن. وبطبيعة التدخلات في أصقاع العالم يكون في الغالب الخضوع في منتهاه إلى إحدى ثنائياته، فكما كان في الماضي البعيد الأحباش والفرس ولاحقاً بين الدولة العثمانية وبعض القوى الغربية، وفي العصر الجمهوري غداة الثورة أصبح اليمن مرتعا لصراع قوى إقليمية ثنائية، الحرب الباردة بين المعسكرين وعربيا السعودية ومصر الناصرية وهكذا. وهو الان بين قوى إقليمية من دول الجوار وغيرها، فيما وراء الجوار وكان يفترض اللعب بأوراق الدبلوماسية بذكاء، فالسياسة هي تليين المستحيل وليس من الحكمة ان ترمى كل الاوراق على طاولة واحدة.
واليمن منذ سنوات ومنذ عقد التسعينيات تحديداً الذي تزامن بعدة تحولات، داخليا كانت الدولة اليمنية الموحدة الوليدة التي تاهت بين سوء تقدير من شاركوا فيها وعدم الدخول في شراكة جدية والانطلاق من اعتبارات ضيقة الأفق وتهميش الآخر وتضييق المشاركة الشعبية ونحو ذلك، واقليميا بدءا بزلزال العراق المدمر بغزوة الكويت، وكان للتسرع اليمني في اتخاذ قرار غير صائب احد عراقيل اندماج اليمن في المنظومة الخليجية، وكان الأجدر الوقوف إما على الحياد، كتونس او التنصل من موقف خاطئ كالأردن، ورغم قدر الأردن كونه بين هذه العواصف كان المستفيد دائما بعكس اليمن المنزوي جغرافيا بين صحارى وبحار تنعكس مشاكل جيرانه عليه، كالصومال والقاعدة في السعودية، فقد غدا الحارس الأمين للجوار الإقليمي والدولي كما يقال، وكان أمام اليمن طريقان بعد التورط بقرار الوقوف في الخندق المعادي للإجماع العربي، مهما كان صواب ذلك من عدمه، وهو اما الاعتذار الخارجي، او الإصلاح الداخلي ولكنه لم يكن قادرا على هذا ولا ذاك، فالشعب دفع الثمن لأكثر من عقدين، المهم هو استمرار النظام على امل التوريث في ما بعد، هذه هى منجزات اليمن خلال اكثر من عقدين، وكان يفترض ان تجرى انتخابات عقب حرب 1994 وحينها كان سيخلد من شارك في الوحدة، كما كانت الفرصة في انتخابات 2006 عندما كان المرحــوم ابن شملان مرجحا للفوز، ولكن التحايل على سير الانتخابات ونتائجها افرز لنتيجة مسخ وهمية!
في هذا السياق شهد اليمن وخلال اقل من عقدين تطورات أمنية وهي الاعتداءات على مصالح غربية في اليمن، وتهديد السواحل وضرب سفينة أمريكية في المكلا، وأخيرا انتعاش القرصنة بعد تداعيات أزمة القرن الافريقي الصومال… كل ذلك جعل تركيز الإدارة الأمريكية على أمنها القومي من بوابة اليمن، ولم يستفد اليمن من المساعدات الأمريكية إلا الفتات، واغلب مساعداتها تصب فيماعُرف بالأمن القومي الأمريكي في مداخل البحر الأحمر وعموم اليمن، وبدأ حينها مسلسل الطائرة بدون طيار الذي أنكرته القيادة اليمنية آنذاك مراراً، ثم اعترفت تلك القيادة بأنها سمحت بذلك، ومن ذلك التاريخ بدأ التدخل السافر في اليمن.. ولو تأملنا سيرة بلدان الربيع العربي الأخرى فلم تكن على هذا الشاكلة في التعامل مع الادارة الأمريكية، بل لقد استفادت من المساعدات الأمريكية السخية. كذلك غدا اليمن وكيلا لجيرانه في مقارعة القاعدة، حيث قام اليمنيون نيابة عنهم بهذه المهمة، ولذا فالعدوان الخارجي ينحصر في معظمة في مساعدات الدول المانحة كالدول الاوروبية بصورة ثنائية او الاتحاد الاوروبي، وكذا اليابان وغيرها، لان هذه البلدان بقدر ما تأخذ وتعطي فانها تدرك معاناة اليمن الاقتصادية.
وكأن مشكلة اليمن تنحصر في القاعدة وغيرها، بينما همومنا تنموية بالدرجة الأولى، إضافة لغياب الدولة المدنية العادلة، وللفوضى والفساد اللذين دبا في كل مفاصل الدولة خلال اكثر من عقدين، وها نحن اليوم نجني تبعات كل تلك المأسي، بل العكس فقد شهدت مصر وتونس خلال السنوات المنصرمة تحولات تنموية لا احد ينكرها، وكان لهيبة الدولة والقضاء تحديدا قبولا نسبياً لدى المراقبين، الا ان الإشكال كان في غياب الديمقراطية، في حين كانت في اليمن، حروب داخلية ست (قضية صعدة)، غياب دولة المؤسسات، سياسة المحاباة والمراضاة، سياسة خارجية فاشلة بكل المقاييس، سواء في ما يتعلق الأمر بدول الجوار التي سلمت كل أوراق اليمن، ونجني الان نتائجها في معاناة المغتربين، وكذا العداء المطلق لإيران، بحيث لم يعد هناك توازن، فكان من الأجدر في تخطيط السياسة لو كانت هناك مراكز بحوث ودراسات ومستشارون ناصحون لكان لنا توجه آخر مع القوى الإقليمية ودول الجوار ولاحترمنا الآخرون.
وأخيرا وغداة الاحتجاجات التي شهدتها الثورة الشعبية في اليمن فقد قُدر لربيع اليمن أن ينتهي بإرادة خارجية وموافقة داخلية وفق ما عرف بالمبادرة الخليجية وبرعاية دولية، التي لازالت تبعاتها إلى يومنا هذا. وفي هذا تدخل سياسي حميد فيما لو آلت الأمور لنهاية مرضية، فبداهة ان ذلك خير لبلد يفتخر سكانه بحيازة السلاح.
وعليه فان المنطق الواقعي لرصد سير سياستنا الخارجية والداخلية مع القوى الفاعلة داخل اليمن هي بداهة نتاج سنوات من القحط والجفاء بين الحاكم والمحكوم والرأي الواحد الذي آل لمثل كل هذه المآسي، وليست كل المعوقات والتعثرات سببها وزراء الحكومة الحالية المؤقتة التي جاءت على تركة ثقيلة من العبث والفوضى لعقود مضت، ولسان حال المنطق والحكمة هنا (فلا تزر وازرة وزر أخرى) .
ودعونا نزرع الأمل والتفــــاؤل في أنفسنا فلعـــل اليمنــيين سيثبتون للعالم صحة حديث الرسول الأعظم بأن الإيمان يمان والحكمة يمانية.

‘ كاتب وسياسي يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية